محمد خير البقاعي
كانت كوكبة الحلقة الأولى من زملاء قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الملك سعود، مضيئة زاخرة بما يجول في الخاطر، احتفظت منها بذكريات المكان والزمان والبشر. لقد أسعدني كل ذلك في جوار زميل وصديق، كان منذ التقينا يخصني بنوع من المحبة وعته نفسي وشكره له عقلي؛ إنه صديقي وأخي وصاحب فضل في واحدة من مباهج حياتي؛ الأستاذ الدكتور معجب سعيد الزهراني الذي أشاركه في الثقافة الفرنسية لغة وثقافة وترجمة، ناهيك عن جيرة المكتبين مدة عمله في الجامعة. أبو توفيق شخصية لها مكانة في أسرتنا وقلوبنا وكفاءته العلمية وخبراته الواسعة في الثقافتين، لا تحتاج شهادة من أحد. كان حضوره بهياً لطلبته وزملائه، ولكن مدينة النور كانت دوحة خصبة في مخيلته، وتحولت إلى واقع ملموس عندما سمي مديراً عاماً لمعهد العالم العربي في باريس، (2016- 2020م)، وكانت فرصة لمزيد من الوضاءة في الحضور العربي في محافل الثقافة الفرنسية، وللتعبير عن حضور الثقافة العربية (وإزاحة الحمولات المثالية) وتقديم الوجه المشرق للمملكة وللعالم العربي؛ وعبّر عن ذلك أجمل تعبير في (مكتبه على السين 2022). أبو توفيق اليوم ناسك في أحضان الطبيعة تقطر عباراته ودًّا وحبًّا. إن منطق الذاكرة الذي لا يعرف المنطق عاد بي ليلة أمس إلى فائدة كنت قد حصلتها إبان بحثي وذكرتها في حاشية كتاب أنسيته، مفادها أن المعاجم العربية القديمة تخلو من كلمة «واحة»، وهو أمر عجبت منه، ولما عدت إلى معجم البلدان 5/ 341 طبعة دار صادر، وجدته يقول في مادة «واح» (الواحات: واحدها واح على غير قياس، لا أعرف معناها، وما أظنها إلا قبطية، وهي ثلاث كور في غربي مصر...). أما المعاجم الحديثة فهي تنسج ما شاع بين الناس ومنها «المنجد» مثلاً يقول: واح والواحة ج واحات: أرض خصيبة في صحراء رملية (واللفظة منقولة عن اللغة القبطية). وقوله من اللغة القبطية مخالف لما ذكره ياقوت فالذي من القبطية هي (واح) وجمعها واحات كما نقلناه.
ووجدت على غوغل تعليقة مفيدة للباحث اللغوي عضوان عويضة قال:
أما واحة فغير عربية، بل قبطية أي مصرية قديمة، لذا فالأصل أنها لا تخضع للميزان الصرفي العربي، ولا تجدها في المعاجم العربية الأصيلة، ولكنها لما عربت وأجريت عليها أحكام العربية أمكن قياسها على ما أشبهها من الكلمات العربية نحو (ساحة وباحة وراحة وقاعة وساعة وطاعة وعادة وعالة..) ولو أضيفت إلى المعجم لكان مكانها (ووح) غالباً، ولم أقسها على ذوات الياء نحو (غادة) لأن ذوات الواو أفشى وأغلب). وقوله إنها قبطية مخالف لما ذكره ياقوت من أنها (واح). هذه التعليقة الطويلة ذكرتني بزميل فاضل كان عندما عرفته شاباً واعداً بشهادة كل أساتذته وعار في نباهته إنه الدكتور جواد الدخيل الذي خبرت رزانته ورسوخ معرفته في نحو اللغة وصرفها وثقافتها، ولم يكن تحفظه إلا ضرباً من الأدب الذي فطر عليه. وغير بعيد في مواجهة مكتبي كان يثمر زميل اتخذ من العلم والعزم والتدقيق والتحقيق طريقاً لا يحيد عنه وإن كلفه بعض الأحايين مواجهات علمية في نطاق التعلم، وكان لا يجد غضاضة في اتباع الحق إن بدا في غير اتجاهه، إنه الدكتور عبدالرحمن الشمراني -رحمه الله- الذي غادرنا إلى الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس، ليكمل هناك مسيرة تتفق مع توجهه في التعليم والحياة. وذكره يقتضي ذكر زميل آخر كان قريباً من طبقته، وغادرنا إلى الجهة المذكورة بعد سجالات كانت السبيل للتعبير عن رأيه، وكان في مسيرته العلمية كثير من الحرص والتحرر والسعي إلى منتهى الإتقان كما يراه؛ إنه الدكتور محمد القويفلي -رحمه الله-. وأدركني شعور بالسعادة فجأة بعد زمن مرّ كما تمر لحظات السعادة وهي تسابق الوقت، وتثلج الصدر، كنت أحب مجالسته منفردين نجتمع حول كأسين من الشاي، ويرخي العنان لأحاديثه الأخاذة بلهجته المحببة التي تقدم لك لهجات مناطق المملكة مجتمعة في لسان واحد. كان حديثه فريداً كاختصاصه باللغة الفارسية وآدابها، وينطلق لسانه وتعبر جوارحه وهو يقرأ رباعيات الخيام بالفارسية، ويأخذك بعيداً في حديثه عن ترجمة رحلة ناصر خسرو (394- 453هـ/1003-1061م).
سفرنامة التي نشرت في مطبوعات جامعة الملك سعود 1403 هج/ 1983م). وكانت قد ترجمت في جامعة القاهرة، وكتب عن الترجمتين علامة الجزيرة شيخنا حمد الجاسر -رحمه الله- في المجلد (20)، العددان (7-8) من مجلته الذائعة الصيت (العرب) في عام (1406 هج/ 1985م) وكان -رحمه الله- على مرور الوقت غير مرتاح لما كتبه شيخنا مع اعترافه بفوائد حصلها مما كتبه. كنت أرى إلى جانبي رجلاً، صنعت منه الحياة إنساناً يمتلك في دواخله طاقة من الأنس والود؛ إنه الدكتور أحمد خالد البدلي (1354- 1438 هج/ 1935- 2017م). كان -رحمه الله- أول رئيس لقسم الإعلام في جامعة الملك سعود وأول سعودي يحصل على دكتوراه في اللغة الفارسية من طهران، وكانت له مشاركة في مجال الرياضة وشؤونها ومآثر أخرى لا يتسع المجال لذكرها.
وأختم بفائدة سألته عنها قلت له -رحمه الله-:
يقولون إن ترجمة السير إدوارد فيتسجرالد Edward Fitzgerald (1809- 1883م) رباعيات عمر الخيام إلى الإنجليزية (1859م) أفضل من الأصل، وكنت أعلم أن لديه كتاباً مخطوطاً عن رباعيات الخيام، فقال: هي بلا شك ترجمة عظيمة، كان لها أصداؤها في شعراء أوروبا وفلاسفتها، وهي التي فتحت عيون المترجمين العرب عليها، ولكنها لا تفوق الأصل، وكان لها في الغرب تأثير اقترب من تأثير ترجمات ألف ليلة وليلة. ولا أختم هذه الشذرة إلا بكثير من تداعي الذكريات عمّا قدمه هؤلاء الأعلام في مجالهم داخل الجامعة وخارجها، على بعض الاختلاف الذي ارتقى حينئذ بالعملية التعليمية والبحثية، وتمثل في ندوة القسم، وأنشطة منسوبيه داخل أسوار الجامعة وخارجها، مما سأقف على كثير منه لو كان في العمر بقية.