عبد الله النجدي
سومرست موم الروائي الإنجليزي المتوفى عام 1965 وصاحب الرواية الشهيرة (عندما كنت جاسوسا) كتب لنا هذا الكتاب الرائع، وهو يخبرنا في الكتاب كيف كانت فكرة كتابته، فأثناء وجوده في الولايات المتحدة، طلب منه محرر «Redbook» كتابة قائمة بأفضل عشر روايات في العالم من وجهة نظره، فخرج لنا هذا الكتاب، ونحن بدورنا نقدم لهذا المحرر جزيل الشكر لأنه كان السبب في وصول هذا الكتاب الرائع إلينا. وسأقوم بنقل أبرز ما جاء في الكتاب على هيئة عشرة مقالات.
وقد ضمت قائمة سومرست موم الروايات التالية:
- توم جونز لهنري فيلدينغ.
- كبرياء وهوى لجين أوستن.
- الأحمر والأسود لستندال.
- الأب غوريو لبلزاك.
- دافيد كوبرفيلد لديكنز.
- مرتفعات وذرينغ لإيميلي برونتي.
- مدام بوفاري لفلوبير.
- موبي ديك لهرمان ملفيل.
- الحرب والسلم لتولستوي.
- الإخوة كارامازوف لدوستويفسكي.
وسنبدأ كما بدأ موم مع الحرب والسلم لتولستوي.
يقول سومرست موم:
أعتقد أن بلزاك أعظم روائي عرفه العالم، لكنني أعتقد أن رواية «الحرب والسلم» هي أعظم رواية كُتبت. إنها صورة كاملة عن الحياة الإنسانية، صورة كاملة عن روسيا في ذلك العصر، صورة كاملة عما يمكن أن يدعى التاريخ وكفاح الشعوب، صورة كاملة عن كل شيء يجد الناس فيه سعادتهم وعظمتهم، أساهم وذلهم. تلك هي الحرب والسلم.
تتضمن الرواية نحو خمس مئة شخصية معالجة بدقة ومقدمة إلى القارئ بوضوح.
لكن موم وجه بعض الانتقادات فقال:
لكن تولستوي كتب بعض الفصول المملة جداً، وأظن أيضاً أنه لتوضيح فكرته كرس العديد من الفصول لرواية وقائع الانسحاب من موسكو، قد يكون ذلك تاريخاً جيداً، ولكنه ليس أدباً جيداً.
ويتحدث موم عن حياة تولستوي فيقول:
ولد تولستوي في طبقة لم تقدم في الغالب كتاباً بارزين، كان ابناً لـ الكونت نيكولا تولستوي والأميرة الوارثة ماريا فولكونسكي، وقد مات أبواه حين كان طفلاً. تعلم في البداية على أيدي معلمين خصوصيين، ثم في جامعة كازان، وفيما بعد في جامعة بطرسبورغ، كان تلميذاً ضعيفاً، لم يحصل على شهادة علمية من كلتا الجامعتين، وقد مكنته صلاته الأرستقراطية من الدخول إلى المجتمع الراقي. التحق بالجيش وشارك في حرب القرم، وكان في ذلك الوقت سكيراً ومقامراً متهوراً.
ويقول موم أيضاً:
في ذلك الوقت كان هناك موجة من التحرر في روسيا، وكان تحرير الأقنان هو المسألة الملحة في تلك الحقبة، ولما عاد تولستوي من الجيش إلى أملاكه ، بعد أن أمضى بضعة شهور في العاصمة منغمساً في ملذاتها، وضع أمام فلاحي ملكيته خطة لمنحهم حريتهم، لكنهم ظنوا أن هناك خدعةً فيها فرفضوا، فبدأ بتأسيس مدرسة لأطفالهم، وكانت مناهجه ثورية، فقد كان يحق للتلاميذ عدم الذهاب إلى المدرسة ولهم الحق في عدم الإصغاء إلى أستاذهم، كان تولستوي يعلمهم ويمضي النهار بطوله معهم، وفي المساء ينضم إليهم في اللعب، يروي لهم القصص ويغني الأغاني معهم حتى وقت متأخر من الليل.
ويشير موم إلى خوف الروائي الكبير من الموت فيقول:
كان ثمة خوف واحد سكن تولستوي طوال حياته: الخوف من الموت. حين كان صبياً كف عن الإيمان بالله، ثم غدا أكثر إيماناً بالله، وقد تشبث لفترة قصيرة بالكنيسة الروسية الأرثوذكسية، ولكن نفرّه منها واقع أن حيوات معلميها لا تتفق مع مبادئهم، وبدأ بالاقتراب من المؤمنين الفقراء والبسطاء والأميين، وإمعان النظر أكثر فأكثر في حيواتهم، فغدا أكثر اقتناعاً بهم.
توصل إلى أن جوهر المسيحية هو الحب والتواضع وإنكار الذات ومقابلة الشر بالعمل الصالح، فشعر أن من المحتم عليه التخلي عن مباهج الحياة، وأن يكدح، وأن يذل نفسه، وأن يعاني ليكون رحيماً.
ويقول موم أيضاً:
في تلك الظروف رأى تولستوي أن من واجبه ألا يستنفد بقدر الإمكان جهد الآخرين، فراح يسخن موقده الخاص ويجلب الماء ويعتني بملابسه بنفسه، ولكي يكسب خبزه بيديه جلب حذاءً ليعلمه صنع الجزمات. لقد صار يلبس مثل الفلاحين، فغدا قذراً ومهملاً.
تخلى عن الصيد الذي شغف به، لأنه لا ينبغي قتل الحيوانات وأكل لحمها، وأصبح نباتياً، كان طوال عدة سنوات مضت يشرب الخمر باعتدال شديد، لكنه امتنع الآن عن الشرب، وفي النهاية أقلع بعد صراع مرير عن التدخين.
وفي موسكو روع تولستوي التفاوت الذي رآه بين ثروات الأغنياء وفقر الفقراء وكتب يقول: «شعرت وما زلت أشعر ولن أتوقف عن الشعور بأنه ما دام لدي فائض من الطعام والبعض ليس لديهم طعام، وأن لدي معطفين وأحدهم لا يملك معطفاً، فأنا أشارك في الجريمة التي تتكرر عن نحو متواصل».
وبعد زيارته لنزل ليلي للمعوزين، ومشاهدة بشاعته، شعر بالخجل من ذهابه إلى منزله وجلوسه إلى الطاولة وتناوله عشاءً من خمسة أصناف من الطعام، يقدمه خادمان بلباس رسمي وقفازات بيضاء. حاول أن يعطي المال للمعوزين الذين استجدوا منه المعونة، لكنه توصل إلى نتيجة مفادها أن المال الذي نالوه بالتملق سبب أذى أكثر من النفع وقال: «إن المال شر، لذلك فإن من يعطي المال هو شرير» كان ثمة خطوة قصيرة تفصله عن القناعة بأن الملكية كانت لا أخلاقية.
وكانت الخطوة التالية بالنسبة لرجل مثل تولستوي واضحة، قرر أن يتخلص من كل شيء يملكه، وهنا دخل في نزاع عنيف مع زوجته التي لم ترغب في أن تفقر نفسها أو أن تترك أطفالها معدمين، وهددت باللجوء إلى القضاء للإعلان بأنه غير مؤهل لإدارة شؤونه، وبعد خلاف لا يعلم حدته إلا الله، قرر أن ينقل ممتلكاته إليها، لكنها رفضت، وفي النهاية قسمها بينها وبين الأطفال، وفي أكثر من مناسبة، خلال السنوات التي استمر فيها هذا النزاع هجر البيت ليعيش وسط الفلاحين، ولكن قبل أن يذهب بعيداً رده الألم الذي سببه لزوجته، وتابع العيش معها في أملاكه، وعلى الرغم من العذاب الذي سببه له الترف، وهو ترف متواضع جداً، إلا أنه انتفع به، واستمر الخلاف، لقد استنكر التعليم التقليدي الذي تلقنه زوجته الكونتيسة لأطفالها، ولم يغفر لها منعه من التصرف بممتلكاته كما شاء.
عاش ثلاثين عاماً بعد اعتناقه مذهبه الجديد. لقد غدا تولستوي شخصية معروفة، ليس فقط بوصفه أعظم كاتب في روسيا، بل من خلال السمعة الواسعة التي حظي بها في جميع أنحاء العالم بوصفه روائياً ومعلماً وأخلاقياً.
كان منشغلاً جداً في تطوره الروحي مما جعله يهمل ملكيته التي كانت غلتها تساوي ما يعادل ثلاث مئة ألف دولاراً، فأصبحت تعود عليه بدخل يعادل ألفين وخمس مئة دولاراً سنوياً، وهذا المبلغ لا يكفي لمصاريف المنزل وتعليم حشد من الأطفال، لذا حثت الكونتيسة تولستوي على منحها حقوق نشر كل كتبه قبل عام 1881 واقترضت مالاً وبدأت العمل وحدها في نشر كتبه، وقد أثمر عملها وتمكنت من دفع التزاماتها، ولكن كان واضحاً أن عملها لا يتوافق مع معتقد تولستوي في أن الملكية لا أخلاقية ولا يحق لها الاحتفاظ بحقوق نشر إنتاجه الأدبي، لكنه لاحقاً صرح بأن كل شيء كان قد كتبه منذ عام 1881 هو ملك عام ويستطيع نشره أي شخص، كان هذا كافياً ليثير غضب الكونتيسة، لكن تولستوي فعل أكثر من ذلك، فقد طلب منها أن تتنازل عن حقوقها في نشر كتبه المبكرة، ومن ضمنها بالطبع الروايات الرائجة جداً، وقد رفضت ذلك على نحو مطلق، فسبل عيشها وعائلاتها تعتمد عليها، أعقب ذلك نزاعات واجتماعات مطولة، كان يتمزق بين إيمانه بلا أخلاقية الملكية، وبين ضرورة توفير حياة مرفهة لأسرته.
في عام 1896 كان تولستوي في الثامنة والستين من عمره. وكان مضى على زواجه 34 عاماً، معظم أولاده كبروا، وابنته الثانية في طريقها إلى الزواج، وزوجته التي بلغت الثانية والخمسين، وقعت بطريقة مخزية في حب رجل يصغرها بعدة سنوات، كان تولستوي مصدوماً، خجلاً وناقماً.
قاوم الضغط الذي مارسته عليه عائلته، وكتب وصية تنازل فيها عن جميع أعماله لصالح الشعب، وأعلن أن المخطوطات الموجودة ينبغي أن تسَّلم بعد موته إلى صديقه شيرتكوف ليجعلها متاحة مجاناً إلى كل من يرغب في نشرها، لكن ذلك لم يكن قانونياً، وألح شيرتكوف على تولستوي أن يحرر وصية أخرى، وقد جرى تهريب الشهود إلى المنزل لكي لا تعلم الكونتيسة بما يجري، ونسخ تولستوي بخطه وثيقة خلف أبواب مكتبه المغلقة.
في هذه الوثيقة تؤول حقوق النشر لابنته ألكسندرا التي اقترح شيرتكوف ترشيحها، لكن شيرتكوف عاد وطلب منه أن يكتب وصية أخرى، فكتب تولستوي وصية نسخها وهو يسند ظهره إلى جذع شجرة في الغابة قرب منزل شيرتكوف، وبذلك أصبح شيرتكوف مسيطراً على جميع المخطوطات.
كان يتلقى كل يوم رسائل جارحة تتهمه بالنفاق. كتب له أحد مريديه يرجوه أن يتخلى عن أراضيه، وأن يعطي ممتلكاته إلى الفقراء، وألا يترك لنفسه كوبيكاً واحداً، وينطلق كراهب متسول من بلدة إلى أخرى. وقد كتب تولستوي في رده: (( لقد أثرت فيَّ رسالتك على نحو عميق، ما نصحتني به كان حلمي المقدس، ولكنني الآن لا أقوى على فعل ذلك، وهناك عدة أسباب، لكن السبب الرئيسي هو أنه لا ينبغي إلحاق الضرر بالآخرين نتيجة قيامي بذلك)).
ثم يروي موم قصة موت الروائي الكبير:
غادر منزله في رحلة كارثية شهيرة انتهت بموته، لم يكن ذلك بسبب تصميمه على اتخاذ الخطوة التي أملاها عليه ضميره وأصدقاؤه الذين حثوه على اتخاذها، ولكن ليفر من زوجته.
نهض من السرير، أخذ بعض المخطوطات، وحزم بعض الألبسة، وأيقظ الطبيب الذي كان يعيش في المنزل آنئذٍ، وأخبره بأنه سيغادر المنزل، استدعى الحوذي وأسرجت الخيول، ومضى برفقة الطبيب إلى المحطة، كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحاً، كان القطار مزدحماً بالناس، وكان عليه الوقوف في مؤخرة العربة المفتوحة في البرد والمطر، توقف في البداية في شماردين، حيث كانت شقيقته راهبة في الدير، وهناك انضمت إليه ابنته ألكسندرا، التي أخبرته أن أمها الكونتيسة حاولت الانتحار حين اكتشفت أن تولستوي غادر المنزل، كانت قد حاولت الانتحار أكثر من مرة، ونظراً لأن عزمها على الانتحار لم يكن جدياً تماماً، فإن محاولاتها لم تكن مأساوية النتائج، بل نتج عنها جلبة وإزعاج. حثته ألكسندرا على الانتقال إلى مكان آخر لأن والدتها اكتشفت مكانه وتبعته، فانتقلوا إلى روستوف، كان قد أصيب بنزلة برد ولم تكن صحته على ما يرام، وفي القطار ساء مرضه، فقرر الطبيب أن يتوقفوا في المحطة التالية، كان هذا المكان يدعى أستابوفو، وحين عرف رئيس المحطة بأن الرجل المريض هو تولستوي، وضع منزله تحت تصرفه.
خلقت أنباء مرضه اهتماماً عالمياً، وخلال أسبوع احتشد في محطة أستابوفو كل ممثلي الدولة.
لقد خاف من الموت طوال حياته، لكنه لم يعد يخافه وقال «هي ذي النهاية، وهذا لا يهم». ازداد وضعه سوءاً، وفي هذيانه استمر يصرخ «أن أهرب، أن أهرب». كان ذلك عام 1910.