سهام القحطاني
«إن الفلسفة تبدأ عندما يتعلم الإنسان الشك»-سقراط-.
كان الاختلاف الأبرز بين سقراط ومن سبقه من الفلاسفة هو تركيزه على «فلسفة العقل» وكان رأيه نحو موضوعات الفلاسفة قبله أن «هناك فلسفة أجدر بالفلاسفة وهي عقل الإنسان».-قصة الفلسفة-ول ديورانت-ترجمة فتح الله محمد المشعشع-.
انطلقت فلسفة سقراط من «صفرية الدلالة» للأشياء، ثم تكوين تلك الدلالة من خلال «الأسئلة الاستقصائية».
فكان السؤال منهجيته في المقام الفلسفي، هذه المنهجية التي يصفها الغذامي بأنها «فتنته الكبرى، فتنة الأسئلة.»-الغذامي، مآلات الفلسفة-.
وهو منهج لو اعتبرناه كذلك لا يعترف بالتراكمية ولا ما سبق إثباته.
ولذا كان لبعض معاصريه مأخذٌ على منهجه؛ لأنه يدفع إلى اضطراب الدلالة، وتركها معلقة في فضاء اللايَقِين.
ولعل من أهم أسباب السقوط الحضاري للفلسفة اعتمادها على «اللايقين».
فليس دائماً اللايَقِين هو منهج معرفي يمكننا توثيقه من خلال منظومة من القوانين والمبادئ الثابتة؛ ولذا ظلت الفلسفة أفكاراً وليست مبادئ.
أسس سقراط أوليات قيمة السؤال كمصدر للبحث المعرفي،-أنا أسأل أنا أفكر-أي أن لا مسطرة قياس تتحكم في صحة أو خطأ حاصل إجابة الأسئلة، لذا تظل الأسئلة تتوالد والإجابات تتكاثر حتى يتحقق هدف الاستجابة الذي بدوره يرتبط بمدى رضا قناعة الذات عنها.
كان سقراط لا يؤمن بالمسلّمات؛ لأنها تُحرّم الأسئلة، لذا حرر معتقداته من كل تلك المسلّمات من خلال الشك وآلية السؤال.
ظلت مسألة الشك من أشهر المتلازمات الفلسفية التي تنقلت بين الفلاسفة عبر السيرة التاريخية للفلسفة.
آمن أرسطو مثل سقراط بأولوية الشك في تأسيس العقل الفلسفي، ليس في ذاته الخالصة كما هو عند سقراط، بل من خلال تحويله إلى إشكالية فكرية» كمصدر لصناعة العقل الفلسفي، ولذلك اختلف عن سقراط بتخصيص أدوات لبناء المعرفة وليس السؤال الاستقصائي الذي لا يحتكم إلى أي مسطرة قياس، فكان أرسطو أول من رسم حدوداً منهجية للقول الفلسفي من خلال آلية القياس التي تعتمد على ثلاث مراتب «مقدمة كبرى، مقدمة صغرى، ونتيجة».
ورغم بساطة مسطرة القياس تلك، إلا أنها أثارت بعض الجدل الفكري فيما بعد والذي تعلّق بمرتبة «المقدمة الكبرى» وكيفية احتساب صفتها،هل احتسابها كمسلّمة أو نموذج قياس.
تميّزت فلسفة أرسطو بالتفكير الواقعي المبني على القياس، وليس المثالية المطلقة للدلالة التي يتحكم فيها رضا الذات، ولعل رؤيته للخير هو نموذج في هذا المقام، فهو يرى أن «السعادة» هي مصدر الخير، وهو بذلك يتجنب الدلالة غير القابلة للقياس في الخير.
لا يتشارك أرسطو مع سقراط في مسألة الشك فقط، إنما يتشارك معه في نقطة أخرى ولكن ليست بصورة متطابقة وهي «صفرية الدلالة للأفكار» كان أرسطو لا يؤمن إلا بأفكاره، وهذه الأحادية هي التي كانت تدفعه إلى دحض كل أفكار من سبقه ليبني المفاهيم من خلاله أفكاره، وهو مادفع «فرنسيس بيكون» إلى القول بأن « أرسطو يسير على الطريقة العثمانية وهو أنه لا يستطيع أن يحتفظ بالحكم إلا إذا قتل جميع أخواته».
هل تأثر الفلاسفة المسلمون بمنطق الشك عند كل من «سقراط وأرسطو»؟
كان أبو حامد الغزالي يؤمن بأن الشك هو الأصل للوصول إلى اليقين، وإن اليقين الحقيقي هو اليقين الحاصل عن تحقق الذات للدلالة، وليس اليقين المنقول، و»صفرية الدلالة» هذه هي التي يتشارك فيها الغزالي مع سقراط..
ويقول الغذامي «تتشابه رحلة الغزالي لكشف طريق الحكمة مع رحلة سقراط «-مآلات الفلسفة»؛ فكلاهما توصلا إلى «أن الحكمة الكاملة لله وحده» و»العلم لله وحده».-الغذامي-.
وأتفق مع الغذامي أن كليهما قد تشارك في طبيعة الحاصل» لكن هناك فارقاً بينهما كما أظن، فسقراط اتخذ الشك منهجاً، في حين أن الغزالي كان الشك عنده وسيلة تحقق ومراجعة للدالة لا وسيلة تصفير للدلالة كما هو الأمر عند سقراط.
وهذا الفارق يعود إلى أن الغزالي كان ينطلق من عقيدة حاملة لمؤشرات تحقق لماهو يقين، في حين أن سقراط لم يكن يؤمن بأن هناك ماهو يقين يمكن اختباره لأنه لا ينطلق من عقيدة.
أما الشك الديكارتي فأظنه أقرب إلى شك الغزالي منه إلى الشك السقراطيّ، لأن الشك الديكارتي هو إنكار معرفي لا إنكاراً وجودياً، وبذلك فالشك لا يهدف إلى تصفير الدلالة بل اختبار صحة يقينها في صورتها السابقة من خلال تفكيك الدلالة وإعادة تركيبها، فإذا تطابقت الصورة ما قبل التفكيك مع ما بعد التفكيك فهذا مؤشر على يقين الدلالة.
إن الانزلاق في الشك الفكري أشبه بالدخول إلى ظلمة، قلما من نجح في صناعة ضوئه فأبصر الطريق، والكثير لم ينجح فأصابه العمى وأضاع الطريق.