د.عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي
قضية المجاز
من المسائل الدقيقة في قضيّة «المجاز» مسألتان:
(1) وصف المجازِ بالطَّاغوتيَّةِ.
(2) التفريقُ بين «التَّصرُّفِ» و»التَّصوُّرِ» في فهم اللسان العربيِّ، ومذاهبِ العرب في كلامها.
أما المسألةُ الأولى فإنَّ «ابن قيم الجوزيّة» أطلقها على «المجاز»، وقد جاء في «مُختصر الصواعق المرسلةِ على الجهميَّةِ والمُعطِّلَة» فصلٌ عنوانه «فصل في كسر الطاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق الأسماء والصفات»، ويظهرُ لي -والله أعلمُ- أنَّ الطَّاغوتيَّةَ وصفٌ يدخلُ فيه كلُّ تشويهٍ وتغيير لفطرةِ الإنسان، وهذا يتوافق مع المعنى المُعجميِّ لكلمة طاغوت؛ إذ جاء في «تاج العروس» أنَّه «كلُّ رأسٍ في الضلال… والصارف عن طريق الخير».
والفطرةُ أنَّ الكلامَ حقائق تُشعرُ ببواطنِ قائليها، فإذا جُرِّدَتْ عنهم تلك الفطرة بأنَّ لهم في ذلك الكلام الذي تعارفوا عليه ما هو سابقٌ ولاحقٌ، وأنَّ السابق أصلٌ في تفكيرهم واللاحق فرعٌ في إدراكهم، كان ذلك إخراجًا للكلامِ من آنيَّته وحاجتهم التي من أجلها صاغوه إلى الزَّمنيَّة بوصف «الكلامِ» تغيُّرًا من ثابتٍ إلى متحرِّكٍ.
ودخولُ الزمنيَّةِ في تحليلِ الكلامِ عند المتكلِّمين أحدُ أنواع التمييز عندهم، فالتمييز يكون بين طبقات البشر في أعراقهم أو طبقاتهم الاجتماعية، ولذلك تراهم يجعلون الناس طبقات مختلفة كالذي عند الجاحظ في أصناف الناس الذين يصحُّ أطلاق وصف الآدميّة عليهم، أو في سؤاله أفرادًا ينتمون إلى الثقافات التي وصفها في هرمه الطبقي بأنهم الناس ومن عداهم أوباش.
وتمتدُّ بهم فكرةُ التمييز إلى الكلامِ الواحد وأنّه أنواعٌ متولِّدةٌ من بعضها، فالسابقُ الذي يفهمونه أصلٌ، واللاحقُ الذي يختارونه فرعٌ، والأصلُ عتبةٌ لما يحدثونه من قضايا كقضية المجازِ الذي انتقل من كونه تفسيرًا لمعنى الغريب على معهود العرب في كلامها إلى إدراكٍ جديدٍ يهزُّ العادات الكلاميَّة بما لا عهد للناس به، ويكون ذلك الغريب الذي أنتجوه بمفهومهم بلاغةً وبيانًا.
وأمَّا مسألةُ التفريق بين «التَّصرُّفِ» و»التَّصوُّرِ»؛ فإنَّها تعينُ النَّاظرَ فيها على تحقيق الفهم السليم لطاغوتية المجاز، وذلك أنَّ «التَّصرُّف» وصفٌ لما تكلَّمتْ به العربُ، وجاء القرآنُ وكلام النبي ? وكلام أصحابه به؛ لأنَّ «التَّصرُّفَ» فضيلةٌ بين «الرعونةِ اللغويَّةِ» و»التَّهوُّرِ اللغويِّ»، وهو من محاسنِ العقل العربيِّ الذي به تمكَّنَ من تفعيل «الذكاء اللغويِّ» في الخطاب، ودخل فيه دقائق مهمة من «الحال»، و»الترفُّهِ»، و»الحيطةِ»، و»الحملِ على المظنون»، وفوق هذا كلِّه ليس «التَّصرُّفُ» مفهومًا متولِّدًا من «التَّصوُّر»، وليس كلُّ تصرُّفًا هو نابع من تصوُّرٍ سابقٍ؛ إذا عرفنا أنَّ «التصوُّر» قاعدةُ المتكلِّمين التي ورثوها عن الفلاسفة، وما كان الفلاسفة إلا قومًا من المتهوِّكين.
والمتأمُّل للتَّصوُّرِ يُشاهدُ فيه أثرَ «الزمنيَّةِ» التي تساعدُ على تفسيرِ الأشياء وفق التأسيس الذي استمدَّ من التَّصوُّرِ.
ولننظر في «الاستعارةِ» سنجدها إما أن تكونَ تصرُّفًا في الكلامِ، وحينئذٍ هي لا تعدو أنْ تكون استعانةً مقدَّرةً بظروفها، ولا تعدوا أنْ تكون بديعًا في الكلامِ مكانهُ «الكلامُ الموزون» الذي يُبتغى به تسهيلُ حفظ الكلام المنثور، وليس جمالا في الشعر؛ لأنَّ العرب قبل «المحدثين» لم ينتشر في أشعارهم، بل إنَّ المحدثين أكثروا منه لمعرفتهم بلفظيَّته التي تدهشُ الآذان، وتحرِّكُ الأذهان، ويدفعهم ذلك إلى الإغراب، والمتأمِّل لكلام ابن المعتز في كتابه «البديع» سيدرك ذلك.
وأمّا أن تكون الاستعارةُ تصوُّرًا للأشياء، وحينئذٍ لا بد أنْ يكون ذلك مبنيًا على «قاعدة» متروكة، وتوهمٍ مطلوب، وأصلُ ذلك أن تكون الاستعارة بابًا من أبواب الإدراكِ الذي يخدم فكرة «الجوهر والأعراض».
وبهذا قد يظهرُ لنا أنَّ «الاستعارة» على مذهبِ العربِ تصرُّفُ عقلاء أزكياء، و»الاستعارة» على مذهب المتكلِّمين تصوُّرُ مفكرين أذكياء، وليس كلُّ ذكيٍّ زكيًّا.
وبالله التوفيق
** **
- جامعة الحدود الشمالية