جواب أتاني عن كتاب بعثته
فسكّن مهتاجا وهيّج ساكنا
سقيت بدمع العين لما كتبته
فعال محب ليس للود خائنا
ابن حزم الأندلسي
استكمالاً لرحلتنا مع ابن حزم، فلا يكتمل الحديث عن المجتمع إلا بالحديث عن نصفه الآخر، فكيف ونحن نتحدث عن الحب، فالحب لا يكتمل إلا بالمرأة، يقول عن نفسه: «لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني ربيت في جحورهن ونشأت بين أيديهن ولم أعرف غيرهن». ففي «باب السفير» ويقصد به الشخص الذي يقوم بدور الرسول بين طرفين، وباب «المساعد من الإخوان» وهو الصديق الصدوق في الحب الذي يكتم سرك، ويساعدك على تهيئة الجو في لقاء الحبيب، يرى أن أكثر ما يقوم بهذا الدور هن النساء، ويبدين مرونة أكبر إن جاز التعبير في هذا الشأن، وأنهن أكثر تواصياً وكتماً من الرجال، وربما يعود ذلك إلى كون المرأة «غالباً» ترى في العلاقة علاقة حب صادقة بين طرفين قد تنتهي بزواج، ليس من حقها التدخل فيها. أما الرجال «غالباً» فيتعاملون مع هذا النوع من العلاقات على أنها تجارب وعلاقات عابرة.
ابن حزم كأسلوب أدبي كأنه مرشد سياحي، يجول بك في مدينة العشق والغرام على جناح طائر، ترقب هذه المدينة الحالمة ويصفها لك من علو، وينزل بك أحياناً لتتمشى داخل المدينة، وتلمسها حياً حيا، جداراً جدارا. تقاطيع شعرية جميلة، لدرجة أني أردد كفاك إبداعاً فقد أسقيتني حتى الثمالة. له في كل باب قصيدة، وفي كل علامة حكمة، اشتهر بأنه فقيه، ولكنه هنا يُظهر جانباً عاطفياً لا أعتقد أنه كان سيظهر لولا أن أطلق قلمه، تحركه الذكريات، وتجره الآهات، وتدفعه النوبات العاطفية.
يكتب بلغة راقية، يتميز بجمل متصلة منفصلة، كل جملة تحوي معنى واضح بحد ذاتها، وفي ذات الوقت متصلة مع محيطها. بعض كلماته تتراقص أمام عينيك كتعبير عن حال الأندلس الذي يتراقص فيه كل شيء، الجواري، الساسة، الخصوم، المجاهدون، المرابطون، الموحّدون، ملوك الطوائف، تناقضات ترى أن النظام العالمي الجديد كان بدايته الحقيقية في الأندلس ...
أخيراً ...
كتب عن العتاب بعد الهجر متخيلاً مشهد المحبين في لحظات الاعتذار: «فابتدأ المُحبَ في الاعتذار والتذلل والإدلاء بحجته الواضحة من الإدلال والإذلال، والتنعم بما سلف، فطوراً يدل ببراءته، وطوراً يرد بالعفو، ويستدعي المغفرة، ويقر بالذنب، ولا ذنب له، والمحبوب في كل ذلك ناظٌر إلى الأرض يسارقه اللحظ الخفي، وربما أدامه فيه، ثم يبسم مخفياً لتبسمه، وذلك علامة الرضا، ثم ينجلي مجلسهما عن قبول العذر، وتقبل القول، وانمحت ذنوب النقل، وذهبت آثار السخط ووقع الجواب بـ «نعم» وذنبك مغفور لو كان فكيف ولا ذنب؟ وختما أمرهما بالوصل الممكن، وسقوط العتاب، والإسعاد وتفرّقا على هذا» ...
عشاق الحرف والمعنى، نقلت هذه الكلمات وقلبي يتسع سعادة خاصة عندما قال: «ويقر بالذنب ولا ذنب له»، أحياناً تعترف بذنب وتعتذر عن لا شيء لأجل خاطر محبوبك، فالحياة أكبر من أن نعقدها من أجل تفاهات.
ما بعد أخيراً ...
ابن حزم فقيه مات ولم يحج..
فحج بنا إلى زمن الحب وتناقضاته ... الأندلس!
** **
- خالد الذييب