د.فوزية أبو خالد
1
العلاقة العاطفية بالوطن
هل ما يربطنا بالوطن علاقة عاطفية محضة أو علاقة مشتركات فكرية ووجدانية وثقافية وعلاقة عقلانية وموضوعية وعلاقة مصالح ومصائر متشابكة وعلاقة تاريخ ومستقبل تبتدئ بالمكان وإن كان ليس لنهايتها زمان؟!
لا أخفي هنا تساؤلي عن قول البعض نمنا وصحونا على وطن قرر إطلاق عاصفة الحزم. فمع نبل الهدف الذي لا خلاف فيه ولا عليه لإعادة الشرعية لدولة الجوار ولحماية بوابة الوطن الجنوبية فإنني لا أظن الأمر برمته مباغتاً تماماً لأن واقع الحال كان يتطلب تحركاً وإنقاذاً. كما لا أخفي تساؤلي لمن سجلوا قول نمنا وصحونا على قرارات تاريخية لتغيرات قيادية غير مسبوقة، والتوصيف قد يكون محقاً إلا أنه إذا كان يصعب التنبؤ فلا يستحيل الاستقراء في وطن يحاول أن يقاوم اكتمال المحاقات المحيقة بالمنطقة. على أنني أفهم أن قول ذلك لم يكن يقصد به الحديث عن جهل الوعي العام بتحديات اللحظة التاريخية الراهنة أو تحيده عن واجب الانخراط فيها، بقدر ما يقصد به ربما التعبير العفوي عن التوافق الوطني بين المجتمع وبين القيادة. وهذا ما يشفع لمثل هذه الأقوال باعتبارها معطى من معطيات العلاقة العاطفية التي غالبا ما تشكل لحمة علاقة المواطن السعودي بالقيادة وبالوطن. وإن كانت لا تكفي وحدها.
2
علاقة الاستقرار بالتغير
ولمحاولة تقديم قراءة تثمينة لعلاقة المواطن بالوطن والمجتمع بالدولة والشعب بالقيادة في المجتمع السعودي لا تكتفي بالجانب العاطفي على أهميته, فقد قررت أن أتناول في مقال اليوم التعالق الجدلي والتشابك العضوي بين حزمة الأشواق التي يحملها المواطنون السعوديون وحزمة القرارات الملكية التي صدرت عن الملك سلمان فجر الأربعاء الماضي. مع إضاءة ما بينهما من مشتركات الملح والخبز وقواسم التطلع والأمل نحو مستقبل يجمع بين ضرورة الاستقرار وضرورة التغير لتحقيق نعمة نهوض الأوطان.
كثيرا ما أسأل طالبات الجامعة للدراسات الاجتماعية من مستويات متعددة بما فيها الدراسات العليا، ما أهم ما يدرسه علم الاجتماع. وفيما تتنوع الإجابات من القول، الأدوار، المواقع، القوى، القيم الاجتماعية إلى القول النظام، الأنساق، البنى الاجتماعية، فإن سؤال الجمع بين الاستقرار والتغير الاجتماعي يظل من أشد الأسئلة محورية ومن أكثرها إثارة للقلق المعرفي والميداني معا للعلوم الاجتماعية عامة ولعلم الاجتماع السياسي خاصة. فعلى الرغم مما قد يبدو من تناقض ظاهري بين الاستقرار والتغير فإنهما يشكلان شرطين متلازمين لأي تطور اجتماعي وسياسي على مستوى الدولة والمجتمع والعلاقة بينهما, على أن يكون ذلك بالتوازن بينهما. فلا تزيد جرعة الاستقرار بما يؤدي إلى الجمود والتكلس الضمور وتحول الحياة الاجتماعية إلى حالة موات في الوقت الذي لا تستشري فيه جرعة التغيير فيتحول المجتمع إلى حالة من التفكك والفوضى والانحلال. بما قد ينتهي بالمجتمع جراء تأزم التوازن تأزماً جذرياً بين الاستقرار والتغير إلى ما يعرف بـ»الإنتروبيا الاجتماعية» أو التذري.
3
علاقة الثابت بالمتحول
والملفت أنه خلاف لعينة من القراءات المحلية التي اكتفت بالتناول العاطفي للقرارات دون جهد تحليلي يذكر, فإن عدداً من القراءات التي قامت بتناول القرارات الملكية الأخيرة كالصحف العالمية وبيوتات البحث العلمي ومراكز الدراسات الإستراتيجية قامت بتأطير ذلك في إطار نظري موضوعي لجدل الاستقرار والتغير. وفي هذا السياق تساءلت بعض تلك الكتابات إما بفضول أو بمحاولة استكناه جادة، ما هو الثابت الذي تريد أن تحافظ عليه هذه القرارات وما هو المتحول الذي تريد تحفيزه أو دفع عجلة التغيير باتجاهه في سياسة المملكة العربية السعودية؟!
ومع تعدد الإجابات عن هذا السؤال فإنه بالإمكان استنتاج خلاصة تحليلية لمجمل هذه القرارات، مؤداها أن الثابت في هذه القرارات هو تلك المعادلة البراجماتية الدقيقة التي تحاول ألا تجعل من التحولات نقيضا للمحافظة على ثوابت السياسة بالمملكة ولا ضداً للطابع المحافظ لنظام الدولة السعودية السياسي، غير أن التحدي المقابل هو ألا يشكل الثابت جداراً في وجه التحولات يعيقها أو يخنقها قبل أن تينع.
فسلمية انتقال السلطة بين أبناء مؤسس المملكة العربية السعودية كدولة معاصرة في كيان موحد كانت ركيزة من أهم ثوابت دعائم السلطة وشرعيتها. وقد جرت المحافظة على ذلك الثابت حتى في تلك التحولات التي لم يخل فيها الأمر من توترات سافرة أو مستترة كنهاية عهد الملك سعود ونهاية عهد الملك فيصل. وقد نجحت قرارات الملك سلمان في الحفاظ على هذا الثابت بجدارة رغم انشغالها بسؤال التحول فيما يخص إعادة توزيع سلم السلطة القيادية للدولة. ومع أن انتقال سلطة ما بعد رأس الدولة لم يجرِ وفق الثابت منذ رحيل الملك عبدالعزيز أي وفق سلالة الأبناء فإن متحول التغير في الانتقال بها من جيل الأبناء إلى جيل الأحفاد قد مضى هو الآخر في وفاق مع ثابت السمت الأسري والتوافق الأخوي داخل العائلة المالكة وضمن هيئة البيعة التي أسس لها الملك عبدالله -رحمه الله-.
وربما نستطيع أن نقرأ في توجه القرارات للحفاظ على الثابت، مع الأخذ بالمتحول ما يتقاطع مع أحلام المواطن في قواسم التمسك بالاستقرار مع التوق للتغيير تغيراً سلمياً, خاصة بعد تجارب انكسارات الربيع العربي وتحول أحلامه إلى كوابيس في سوريا وليبيا واليمن. إلا أن تلك الخطوة على أهميتها التغيرية في الدولة العميقة وعلى أهمية سلميتها فإنها ليست إلا واحدة من باقة الأشواق التي يتطلع إليها المواطنون.
وإذا كانت القرارات قد أشركت عنصر الشباب في تقلد مقاليد الحكم على مستوى السلطة القيادية فإن ذلك لم يكن عنصر المتحول الوحيد في ثابت قيادة الدولة السعودية بل إن الإضافة فيه تتمثل أيضا في اعتماد مقياس «الجدارة الأمنية» في هذه اللحظة التاريخية من عمر اختلال التوازن السلمي بالمنطقة. وقد تمثل ذلك في اختيار ولي العهد وولي العهد من خلال تجربة الأمير محمد بن نايف القيادية في مواجهة الإرهاب محليا وعالميا ومن خلال تجربة القيادة العسكرية لعاصفة الحزم من قبل الأمير محمد بن سلمان.
4
علاقة الشراكة الوطنية
لقد شكلت تلك الخطوات تحركاً ناجحاً بين الثابت والمتحول على مستوى التقدم لتجديد بنية السلطة التنفيذية. وهذا ما يخلق إمكانية التعويل على ذلك النجاح لتفعيل المزيد من قواسم التوق الوطني للتحرك بين الثابت والمتحول باتجاه التقدم قدماً فيما يخص السلطة التشريعية. وهذا يعني على وجه التحديد التحرك الإصلاحي فيما يخص آلية العضوية بمجلس الشورى ووظائفه وصلاحياته، كما يعني خلق وتقنين أطر المشاركة السياسية لمختلف القوى الاجتماعية، بل إنه يشمل مشتركات التطلع الوطني في الحلم بدولة المساواة والقانون والمؤسسات وفي النظر إلى نظام الحكم الأساسي ونظام البيعة بعين قابلية الإصلاح المستدام.
وإذا كان قد قيل وكتب الكثير ومنه كلام موضوعي موزون في الحديث عن الدلالات الإصلاحية لبقية القرارات التي عنيت بإحداث تغيرات في رؤوس الجهاز الحكومي، خاصة تلك الوزارات ذات العلاقة المباشرة بالحاجات الأساسية للمواطنين كالصحة والتعليم والإسكان والضمان الاجتماعي ومجالات النشاط الاقتصادي، فإن ذلك يشكل مؤشراً لقواسم الأشواق بين الدولة وبين المجتمع للخروج من علاقة التواكل إلى أفق الشراكة لتحمل مسؤولية اجتراح مشروع متكامل للإصلاح الحقيقي وليس الدعائي الذي لا تستفيد منه إلا النخب أو تلك الفئات التي تقدم نفسها على أنها النخب أو ممثلتها. على ألا يقتصر مثل هذا المشروع على ترميمات في الهياكل الهرمية للوزارات بل يقوم بالحفر ليصل إلى معادلة متوازنة بين الثابت والمتغير لإصلاح السياسات وتجديد الأنظمة وتفعيل قوانين المراقبة والمحاسبة ومن أين لك هذا ومن تعرف وماذا تعرف. وذلك بالتماس مع أنظمة السياسة المحلية للدولة وإعادة النظر فيها على أسس قانونية ودستورية مجددة. مع إيجاد هامش للنقد والمعارضة السلمية والتعامل مع ملفات موقفي الرأي أو السياسة بالمحاكمات العادلة في ظل استقلال القضاء وكفالة حرية التعبير، فالملك سلمان تاريخياً صديق المثقفين. وهذا غيض من فيض العلاقة بين القرارات الملكية الأخيرة وما يستجد منها أو يضاف عليها وبين عينة من أشواق الوطن والمواطنين في قيام شراكات حقيقة بين الدولة والمجتمع نحو مستقبل قادر على مواجهة تحديات الداخل والخارج وبالله المستعان.