د.فوزية أبو خالد
لن يكون هذا الموعد مفاجأة للقارئ وحسب ولكنه مفاجأة لي شخصيًا ومفاجأة للوطن على سعته. فهلا تخففتم مثلي من الأمتعة إلا متاع الاستعداد لمتعة وجدانية وعقلية فارعة. فهيا لنربط الأحزمة أو بالأحرى نفرد الأجنحة على مداها وننطلق معًا إلى مواعيد الأحلام للقاء ذلك الشغف الشفيف المتأجج عبر الأجيال الذي اسمه راية الأمل.
هيئات متعددة لراية الأمل
تتسمى أحيانًا راية الأمل بأسماء عدة كما أنها تظهر على هيئات متعددة ومتحولة. فتظهر راية الأمل في هيئة نجمة تناديك أنت بالذات من بين كل الناس لتشم ضوءها بحواسك الست بما لا تستطيع تحمل تياراته وحدك فتبدأ بتوزيع أرغفة الأمل وباقاته على كل العشاق والمحرومين ومن بهم مس من ألم وأسئلة أو مشتقات أخرى من شكوى القلق وإن كانوا لا يعرفون اسمه. وهم في ذلك مثل أولئك المصابين بمتلازمة «أليكسثايميا» ممن لا يوجد مسمى لشعورهم بأمراض سرية عضال، كالكاتب المغربي عبداللطيف اللعبي الذي ظل يعاني لسنوات من مرض عضال مجهول قبل أن يهتدي إلى أنه عضال الكتابة. وقبله الشاعر النابغة الذبياني الذي لم يكتشف أنه يعاني من عضال الشعر إلا بعد أن تعدى عمر الشباب.
وقد تظهر راية الأمل على هيئة أم ملهَمة وملهِمة كأمي أو وطن شامخ يتبادل كؤوس العدل مع كل الناس سواسية كمشتهى وطني أو قصيدة تأمل كشعر جلال الدين الرومي والصيخان وبابلو نيرودا.
أما أن تظهر راية الأمل على هيئة وصفة طبية وشلال شهد فوار قلما ينبجس ببيئات صحراوية وفي صورة بنت تسفر على مد البصر من خلف النقاب شمساً ومنجم ماس وموكب ملكات متوجات بالكفاح اليومي، فإن هذا يعني أننا نسير أنا وأنت وأحرارالبلاد بالاتجاه الصحيح حثيثًا إلى مواعيد الأحلام وأننا على وشك لقاء راية الأمل وجهًا لوجه والاهتداء بهدوئها ووهجها معًا ومعانقة رائحتها الأخاذة. وهذا ما حدث معي بمحض رضا الوالدين والإصغاء لخرير الضمير في أعتى الصراعات، عندما التقيت راية أمل شاسعة كسماء واضحة كحق، مزهوة كحرف الحاء في كلمة حرية، صبورة مثل حرف السين في كلمة نساء.
اسم من أسماء راية الأمل
كانت راية الأمل التي التقيتها، - عبر موعد شخصي أخذه لي القدر في رحلتي الطويلة المضنية للاستشفاء من السرطان-، تتمثل في سيدة سعودية من لحم ودم وقلب وعقل وعلم وشعر وقامة شماء. كان لراية الأمل التي نهب بريقها فضولي قبل أن التقيها على تويتر وقبل أن نتصافح لأول مرة بمعرض الكتاب الدولي بالرياض، عدة أسماء جميلة تعلمتها عنها من ابنتي طفول العقبي التي التقتها قبلي على شباك صيدلية مستشفى العسكري في قولها عنها، بنت عسولة، صيدلانية متمكنة، وطنية مخلصة، امرأة مشرقة. أما الاسم الذي قابلتني به راية الأمل في الفضاء الافتراضي وفي رحاب عالم الكتب فقد كان مشاعل مصلح الجعيد.
وقد أصبح من بين كل أسمائها الأخرى الاسم الأشد مضيًا في دمي بعد أن عكفت على قراءة كتاب مشاعل الجعيد «أفلاطون المريض». فقد مضى ذلك الكتاب مع كل صفحة من صفحاته ينسج راية الأمل خيطًا خيطًا من وحي الحياة اليومية المركبة البسيطة لتجربة امرأة سعودية تعمل في حقل علمي صارم بأفق إبداعي متموج.
الكتابة بحبر الشغف وماء التجربة
وهذا الكتاب - أفلاطون المريض لمشاعل الجعيد، على حد علمي أول كتاب على المستوى السعودي وربما العربي الذي يتجرأ على إخراج علم متخصص كعلم الصيدلة من عزلة المستشفيات والمختبرات الدوائية ليمشي في الشمس والهواء الطلق بحرية وحميمية بين الناس.
فمشاعل تكتب كتابًا ليس مذكرات شخصية بالمعنى الأدبي وليس كتابًا دوائيًا بالمعنى الطبي ولكنه كتاب يطرح نوعًا جديدًا من الكتابة وهذا سره في رأيي الخاص. فهو كتاب يجمع بين دفتيه وفي كل سطر من سطوره بين البعد العلمي في تحولاته التطبيقية وإنعكاساته الميدانية يوميًا وبين البعد الإبداعي في تجلياته الوجدانية والفكرية. وهذا النوع الجديد من الكتابة التي اجترحتها مشاعل بكتابها هو ما أسميه بكتابة التجربة الشخصية بمزيج خاص من أثير الأحلام وصلصال الواقع وحبر الشغف المعرفي وماء الأنوثة. وهو في رأيي بداية لكتابة غير مجَربة على الساحة الثقافية السعودية إلا نادرًا تلتقي في مستوى من مستويات التخييل مع بحث مرهف وعميق كتبته د.فاطمة الوهيبي قبل عدة سنوات بعنوان «الاستشفاء بالقبلة» أو عنوان قريب من هذا القبيل. وكتاب «أفلاطون المريض» على بساطته الصعبة وفي الحيز المحافظ بل الشديد المحافظة الذي كتب فيه ينجح في رأيي ككتاب ليلى الجهني «في الأربعين» في التأسيس لكتابة تتماهى مع تيارات ما بعد الحداثة في إدخال التجربة الحياتية ببعدها المعاشي والمعرفي وببعدها الواقعي والإبداعي وخصوصًا تجربة النساء التي طالما جرى تهميشها أو إهمالها أو التقليل من شأنها إلى صدر المشهد الثقافي.
بين قلقين المعرفي والمعيشي
هذا النوع المجدد من الكتابة يخلق كتابة إبداعية نوعية تتقاطع مع تجربة الشاعرة التركية إليف شآفاق في الكتابة بحليب أسود التي يقدم لها ترجمة فريدة الشاعر الشاب أحمد العلي، وبعض كتابات الكاتبة التشيلية إيزبيل اللندي التي تنجح في تحرير منطقة جديدة للكتابة تقع بين الرواية وبين المذكرات وكذلك مثل تجربة عالمة الكيمياء الحيوية ليندا جين شيفرد في كتابها «أنثوية العلم» الذي يقدم تفكيكًا للفلسفة الاستحواذية المتعالية التي يقوم عليها فكر المركزية الغربية. وذلك من خلال الاجتراء على تقديم طروحات تمزج بين كشوفات التجربة الحياتية لعالمة تعمل في شركة للتكنولوجيا الحيوية بتعثراتها ونجاحاتها وبين قلق الأحلام والتعلق براية الأمل نحو خروقات جديدة للسائد العلمي وتطبيقاته الميدانية الروتينية في مجالي المعرفة والحياة.
وربما قبل أن أختم رحلة التشويق لمشاركتي الق وقلق القراءة لهذا الكتاب يجدر بي التنويه لاستبعاد أي التباس أن هذا الكتاب في رأيي يختلف اختلافًا نوعيًا عن كتب تطوير الذات التي تنتشر انتشار النار في الهشيم لأكثر من عقدين بنزعتها «البراجماتية» النفعية و»البراكتكالية» العملية وباختلاف قيمتها المعرفية وجمالياتها وتأثيرها من مؤلف لآخر. فكل تجربة في كتاب مشاعل وأفلاطون وإن كانت كتبت بأسلوب سلس وسهل يقع بين ضفتين، ضفة مقولة أو حكمة من الإنتاج الفكري والثقافي العربي والعالمي وضفة الدرس المستفاد من التجربة، فإن ذلك التبسيط لبنية النص الذي لا أشك في صعوبة القيام به، لا يمكن أن يصرفنا عن العمق الثري والثوري لنهر التجربة الراكضة بين تلك الضفتين. هذا وإن كان الكتاب الذي بين يدي على صغر حجمه (132صفحة) وطراوة أسلوبه ووداعة إخراجه، فإنه ككل الكتب الضافية يمكن أن يقرأ على عدة أوجه تجمع بين المتعة والفائدة دون أن تتوقف عن إثارة أو إضاءة الأسئلة والمضامين الوجودية والاجتماعية والثقافية الكبرى.
ليس ختامًا
لن أختم دون أن أدون عناوين المشروعات الوطنية التي لا تكلف ملايين الريالات بل ملايين نبضات القلوب المخلصة التي أهدتها هذه المرأة المبدعة لمجتمعها، مشروع «بادر وتطوع» و»أنا أسمعك» و»بلسم».
وبعد... بعنوان «الهرم الصيدلاني» ص36 تستهل المؤلفة التجربة بحكمة صينية تقول: «المعرفة التي لا تنميها تتضاءل يومًا بعد يوم»، وتختتم التجربة بدرس خلاصته، «أن الخبرة الحقيقية هي التي تتراكم فيها المعرفة، وتتوازى معها الرغبة في ذلك». وبهذه الرغبة المعرفية الجامحة التي تؤججها كتب سحرية مثل كتاب مشاعل الجعيد نضرب المواعيد مع الأحلام ونلتقي عن سبق عمد وإصرار أو استجابة من القدر لرغائبنا الملحة مع سر من أسرار الكون العظيمة قد يتمثل كما حدث معي في اللقاء براية عالية من رايات الأمل.
* الكتابة على مشراق النساء سلسلة كتابة إبداعية نحتها وأنحتها من تجارب الكفاح اليومي للنساء.