يحدث كثيرًا أن يكتب الروائي الرجل عن عوالم المرأة الخاصة سواء النفسية منها أوالجسدية، حيث يقف واصفًا لها؛ لاسيما في الأوضاع التي لا يمكنه أن يجسدها شخصيًا، وذلك في مثل الحمل والطلق والولادة؛ فهي أمور تحدث للمرأة فقط، ويأتي في مقدمة هذه النماذج رواية «آنا كارنينا»؛ إذ يسرد الروائي الروسي تولستوي مخاض كيتي في ثلاثة فصول من الرواية تبدأ من بدء أعراض المخاض وحتى ولادة الطفل، والحقيقة أن مجيء حدث المخاض في ثلاثة فصول ليس من قبيل الصدفة، فالمخاض الطبيعي للمرأة يمر في ثلاث مراحل.
وقد يلجأ بعض الكتاب إلى التماهي مع هذه الخصوصية واستثمارها في خلق عوالم الرجل التي لاتصل إليها المرأة، أو في إقامة بنية الرواية على هذه الفكرة، ومن يقرأ رواية» القبيلة التي تضحك ليلًا» للروائي سالم الصقور، والصادرة عن دار ميسكلياني تونس في طبعتها الأولى عام 2024م، والتي تأتي في 135 صفحة، يجد أن أحداث الرواية تنطلق من لحظة ولادة الأم، وانتظار خروجها ومولودها من غرفة الولادة للاطمئنان على سلامتهما، لكن ولادة هذا الطفل قبل إتمام شهور حمله تحتم ضرورة حصوله على حقنة تضمن له استمرار الحياة، ومن هذا الأمل تبدأ رحلة مخاض الأب التي تتوازى في خط سيرها مع مراحل حياته. وتتوافق رحلة المخاض الذكوري مع المخاض الأنثوي في عدد مراحله- التي يبنى عليها النص الروائي- وتستغرق هذه العملية أربع وعشرين ساعة، وهي أقصى مدة محتملة لمراحل المخاض الطبيعية التي تحدث عند المرأة، لاسيما حين يكون مولودها الأول، بينما يتمثل الاختلاف في طبيعة كل مخاض وطريقته، ومدة حمله، ونوعه؛ وهذه المراحل؛ هي:
المرحلة الأولى: وهي الطور الأولي، وفيه تحدث بعض التقلصات التدريجية للأحداث و الذاكرة، والتي تهيئ للمرحلة التالية، وتبدأ زمنيًا ومكانيًا من قوله:» الثامنة مساء من إحدى ليالي أوغست 2022م، أنتظر خروج أي بشر من غرفة العمليات»، حيث تبدأ انقباضات الذاكرة، التي تنشطر بين الماضي بما فيه من اللذة والألم، وبين الواقع الذي يقيم فيه، فينتظر بشوق خروج زوجته ومولوده الذي لا يعرف جنسه لكنه يمثل مستقبله أمام القبيلة التي تحضر لإغاثة زوجته بدمها، خلال هذه المرحلة يعود إلى الماضي بكامل وعيه منتشيًا بذكرى ليلة زواجه، واستعادة طقوس الفرح التي تجيد القبيلة إعلانها وفق عاداتها وتقاليدها وطقوسها، حيث يحبك التفاصيل الدقيقة التي تقام عليها علاقة الزواج في إطار عائلي بدءًا من اختيار الزوجة وحتى تقرير مصير ذلك الزواج باستمراره من عدمه، ويعيش علي بن سعدى تلك الذكريات بكافة مراحلها العميقة، حتى يصل إلى اللحظة الفاصلة التي يصف فيها الزواج: «الزواج مثل الموت»، ثمة عنصر يفتقده الزواج حتى يصبح سعيدًا، ويستمر انهمار الذكريات السعيدة عليه، لكن الواقع يعيده إلى حيث يقف وينتظر مولوده، ليتساءل متأخرًا عن جنس مولوده، الذي رفض معرفته قبل الولادة، ليفكر في تلك اللحظة عن الاسم الذي سيختاره لها، مستعيدًا في الموضع ذاته الاسم الذي سمته به والدته:» عياف الموت.
وتُستدعى القبيلة في هذه المرحلة من ملفات الذاكرة لتشارك في مراسم الفرح المتعددة، وأيضًا في الظروف الخاصة جدًا؛ إذ لا يجد أفراد قبيلته حرجًا من إثارة قضية عدم إنجابه في مجالسهم واجتماعاتهم مقدمين مشورتهم المؤذية في أحيان كثيرة، كما تحضر القبيلة حضورًا فعليًا حين يتوافد أفرادها إلى المستشفى للتبرع بالدم، فالقبيلة:» بنك اجتماعي» كما يصفها، فهي صيغة اجتماعية، مثل العائلة في الانتماء، تخلق التآلف البشري، وهو تآلف تفرضه الظروف الحياتية، ولكنها تخرج إلى التطرف في الانتماء المبالغ فيه، والذي يجعل التسلسل النسبي ذريعة للتدخل الممقوت في حيوات أفرادها، ولابد من التأكيد على أن حضور القبيلة في هذه المرحلة، يمثل صيغتها الاجتماعية.
وقبل انتهاء هذه المرحلة تأتي الرسالة التي توحي بخطورة المرحلة القادمة، فهذه المولودة بحاجة إلى حقنة:» قد تفجر الحياة أو الموت في رئتيها»، وستمثل رحلة إحضار هذه الحقنة المحرض المرحلة التالية، وأشير هنا إلى المفارقة الزمنية والمكانية الفاصلة بين المخاض الأنثوي والذكوري في هذه المرحلة؛ إذ استغرقت زمنيًا قرابة أربع ساعات من عمر المخاض، وهو الزمن الأقل والمساوي للمرحلة الأخيرة لدى علي بن سعدى، ولم يغادر خلال هذه المدة المكان –المستشفى- لكنه في المخاض الأنثوي الطبيعي يستغرق زمنًا أطول، وقد تتعدد أماكنه أيضًا؛ لأنها مرحلة تهيئة تحتاج إلى حركة ونشاط.
المرحلة الثانية: وتمثل في المخاض الأنثوي، مرحلة ولادة الطفل وخروجه من الرحم، وهي المرحلة الأشد ألمًا، والأقصر زمنًا، والمحددة مكانًا أيضًا؛ إذ قد يؤدي طول الزمن إلى اختناق الطفل وموته؛ وتتمثل المفارقة في حدوث العكس في المخاض الذكوري؛ الذي استغرق ست عشرة ساعة بدأت من الثانية عشر إلا ربع ليلًا، وانتهت في الرابعة عصرًا، لكن هذه المرحلة تتماهى مع شبيهتها عند الأنثى في صعوبتها؛ مما يكون مبررًا لطول زمنها، إضافة إلى الأحداث الصعبة المتسارعة، واتساع دائرة الأمكنة الفعلية التي يعبرها علي بن سعدى خلال هذه المدة، والتي تبدأ وتنتهي ذهابًا وإيابًا من مواقف السيارات في المستشفى بنجران، مرورًا بمركز وادي الدواسر، ومد لا ينقطع من رمال الصحراء، وسلاسل جبال متصلة متعرجة، مع لافتة في منتصف طريق العودة تشير إلى قرية الفاو الأثرية - مملكة كندة القديمة - بما تحمله من دلالة العودة اليائسة: « غادرها الملك الضليل بحثًا عن استعادة ملكه، عاد بلا ملك وبمعادلة شعرية مختلفة عن الخسائر والمفقودات في الحياة:
وقد طوفت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب»
إضافة إلى تجدد الأمكنة المستدعاة من الذاكرة خلال تلك الرحلة والتي تبدأ من نجران وتنتهي إليها، حيث تظل نجران حاضرة بزمنيها الماضي والحاضر المرتبط بأحداث الموت واليأس والتي تأتي في سياق البحث عن الطرق العلاجية المرتبطة بالخرافة؛ حيث الطب في نزال مع أنواع العلاج الأخرى بالرقية القرآنية والسحرة والمشعوذين في تناقض عجيب لاجتماعهم معًا؛ لكنها الحاجة، ففي مساحة السرد الزمنية الماضية، تتذكر العجوز شفيا كثافة النخل التي اقتلعها الطوفان القديم فأصبحت الأرض كتلة جبلية، فتردد مقولة:» نجران غرق غرقتين، وموعود بالثالثة»، وتعرج ذاكرته على إحدى رحلاته العلاجية إلى أحد السحرة، والذي لم يجد منفذا للخروج من منطقته المظلمة إلا بالمرور قرب آثار سرو «ذات علي» التي شهدت قتل أحدهم على يد زميله لحادثة ترتبط أيضًا بعدم الإنجاب، هكذا فإن كل تحول في نجران –القبيلة- يقترن بالموت، حتى الأسواق القديمة تغيرت بعد موت أصحابها:»كانت المعدات تهاجم دكان دحيدح وتنسف تاريخ هذا المكان كله، تزيل كل ماله رائحة وتبني أماكن بلا رائحة. تعيد ترتيب المشهد البصري بمعايير تناسب ثقافة من صنعوا هذه المعدات»، ويأتي الحديث عن نجران هنا مع إلماح إلى اختلاف الهويات، العرقية والمذهبية في ثنائية تمييز دون إقصاء، ودون الالتفات إلى الفروقات بينها؛ لأنها جميعًا تصل إلى السماء:» انطلق أذانان مختلفان إلى السماء».
وتعادل هذه المرحلة في المخاض الطبيعي مرحلة دفع الطفل وخروجه من الرحم، والتي عادة ما يطلب من الأم أن تعمل على دفع الجنين لإخراجه إلى الحياة؛ ليكون طلب رؤيته هو أول ما تفعله بعد سماع صراخه معلنًا قدومه إلى الدنيا، وذلك قبل انتهاء مراحل الولادة كاملة، ويبدأ علي مرحلة الخروج غير المكتملة من الرحم بقوله: «جعلت نجران خلفي»، وحين يصبح في منتصفها-المرحلة- يجد نفسه مجبرًا على العودة إلى ذلك الرحم الميت الذي خرج منه، إذ يجد نفسه في: «مواجهة مع نجران. اجتاحني غضب على كل شيء في هذا الكون»، وينتهي به المطاف وقد عاد إليها:» دخلت نجران والصحراء تتلوى ورائي»، فخلال رحلة الخروج والعودة لا يجد من يشد على يديه بالخروج والانفصال عن المكان، أو يساعده على ذلك، فكل الرسائل التي تصله تطلب منه العودة، مرة من زوجته وهي تغالب التخدير:» عوّد»، وأخرى من الطبيب الذي أخبره بألا استجابة ترجى من الحقنة؛ لذلك:» ارجع».
المرحلة الثالثة والأخيرة: وهي الأخطر والأقصر في زمن الولادة؛ حيث يتطلب الفصل التام بين الجنين والرحم للحفاظ على صحة الجميع، بعد التأكد من اكتمال أعضاء الطفل ليتمكن من التزود من الغذاء والهواء بعد قطع الحبل السري والأغشية المرتبطة بأمه بشكل كامل، وتأتي هذه المرحلة متوازية تمامًا مع المخاض الذكوري؛ إذ لا تتجاوز المدة أربع ساعات من مجمل ساعات مخاضه، تبدأ من دخوله نجران في الساعة الرابعة متجهًا إلى المستشفى، وتنتهي في السابعة مساء، وهي الساعة التي توزعت بين دقائق انتظاره في المطار وعودته إلى المستشفى.
ويصل علي بن سعدى في نهاية المخاض إلى النتيجة القاسية، التي وصل إليها عبد الناصر، الحائر الذي يصادفه في صالة المطار، وهو يلتقيه كل خمس سنوات؛ ليكتشف في كل مرة أنه ما يزال في حيرته باحثًا عن حريته، لكنه هذه المرة وبعد رحلة طويلة يخبره عن ميلاد ذاته وهويته الجديدة، والتي تحققت بعد معاناته المتسلسلة في تبني أفكار دينية تعصف به جعلته بين مخالف ومؤالف، لينتهي به الأمر ناقضًا عهده بكل الأديان، بعد أن علمته:» كيف يضاد ويعادي ويكره لا أن يحب ويرحم»، والخلاصة التي كان يسير إليها عبدالناصر، هي أن:» ثمة شيئًا ثقيلًا يجب الإطاحة به: القبيلة، مروجو أفيون الدين، جغرافيا السجن الوعرة، ولابد من إضرام النار في رماد هذه الذات المبعثرة»، لقد وجد الطريق إلى شمس الحرية في أن يكون مع الله دون القبيلة ودون المذاهب «فالآن علي العودة إلى نقطة بدئي».
هذه الرحلة الفكرية بين المذاهب والعرقيات المختلفة، التي يلخصها عبد الناصر في حواره مع علي بن سعدى، مع ما لاقاه من أوجاع التطرف، والتمييز الإقص ائي في المذهب الواحد والقبيلة الواحدة، التي كانت غطاء يستر تحتها تناقضات الدين والسحر والخرافة، والتي انتهت به إلى مغادرة المكان إلى الأبد، تمثل تصريحًا مقنعًا لما حدث مع علي بن سعدى لكنه ظل مستسلمًا لشكلها الاجتماعي ولم يجرؤ على المغادرة كما فعل عبد الناصر.
فعبدالناصر يمثل في صراعاته وتناقضاته نموذجًا يعادل في موقفه مواقف علي بن سعدى، لكنه الوجه الإيجابي للصراعات التي وقف فيها عليّ موقفًا سلبيًا، غير أن النتيجة التي بلورها كلا الموقفين كانت نتيجة واحدة، فلم ينجح تغيير الوسيلة في تغيير النتيجة، لكن هذا اللقاء حقق نوعًا من الاستقرار النفسي والتوازن لدى علي، هذا اللقاء الذي كان يعده نفسيً لاستلام شهادة وفاة انته.
وتكشف المرحلة الأخيرة أيضًا عن الحضور السلبي لمادة القبيلة، التي ترفض الدخول إلى عالم المدينة حتى صارت نجران قبيلة واحدة الكل يعرف فيها الآخر، كما يكشف أن مشكلة القبيلة ليست في الأعراف والتقاليد التي تسيطر عليها، ولكن مشكلتها في تقديس الطقوس والمعتقدات الدينية المرتبطة بالخرافة، فتسلم الإرادة إلى القبيلة، ويعطل العقل الوقف على رجال الدين، كل هذا والقرية: «تنتهي من مخاضها الطويل لتلد من نفسها مدينة حقيقية. لكنها حتى الآن عقيم لم تنجب أنبياء كما أوهمنا سدنة التأويل، ولا ناطحات سحاب ومراقص ليلية كما وعدنا الآخرون».
لم يكتمل المخاض الذكوري في أبعاده الخارجية، ولم يحظ علي بن سعدى بلقب الأبوة إلا لساعات قضاها لاهثًا في البحث عن أسباب نجاة ابنته من الموت، وهي التي ولدت ولم تكتمل جميع أعضائها، ولم تتم أشهر حملها، هي التي لم تطق بقاء في ذلك الرحم المظلم، انطلقت إلى الحياة لعل في أسبابها ما يمنحها عمرًا جديدً، لكنها أيضًا لم تجد، فماتت، لقد استطاع علي بن سعدى أن ينجو من تهمة العقم، التي أصيب بها عبد الناصر بعد صراعه مع أفكاره، وحاول تعويضها بالحب، لكنه برغم ذلك لم يفز بلقب الأبوة، فالمخاض العقيم لا يمكن أن ينتج حالة صحيحة أو طفلًا سليمًا، فالمخاض الأعمق والمنتظر هو الخروج من رحم المكان الذي ارتبط معه بأغشية الذاكرة ووشائج الدم والقبيلة والتمييز والتحزب، ولن يستطيع الانفصال التام عنه لم تكتمل لديه أدوات الوعي بضرورة الحرية التي يصل إليها بتفتح المدارك ونمو الحواس والتأمل والتفكير لا بالتبعية التي تفرضها القبيلة.
** **
د. دلال بنت بندر المالكي - أديبة وأكاديمية