عبدالله العولقي
في مقال (أنا وليلى، أجمل الشعر أكذبه) المنشور سابقاً في صحيفة الجزيرة الثقافية، تحدثت عن ظاهرة مشهورة في أدبنا العربي، وتساءلت حينها هل يحق للمبدع الفنان أن يتصور قصة خيالية من بنات فكره وينسب أحداثها مع شخصيات وأطراف أخرى وهي بعيدة كل البعد عن واقع الحقيقة، عندما يذكر الشاعر المبدع أن هذه القصة من بنات أفكاره فلا ضير من ذلك، لكن الإشكالية هنا عندما يدعي المبدع أن هذه القصة حقيقية والتي يأتي الحب محورها في أغلب الأحيان بينما ينكرها الطرف الآخر جملة وتفصيلاً، أو يكتشف الباحث الناقد أن أحداث القصيدة مجرد تبريرات يقدمها الشاعر في تجربته وليس لها واقع حقيقي، ما أقصده أننا في الأدب العربي مثلاً قد أدركنا وجهة نظر قيس بن الملوح في معشوقته ليلى ولكننا لم نعرف وجهة نظر ليلى العامرية تجاه قيس، هل كانت تبادله نفس المشاعر والمحبة كما صورها لنا قيس في شعره، فقيس مبدع ذكوري وفنان لديه من أدوات الشعر والأدب ما مكنه من تخليد وجهة نظره ولكن ليلى الأنثوية لم تكن تمتلك هذه الأدوات فغابت عنا وجهة نظرها التي ربما قد تكون صادمة لنا!
في هذا المقال حكاية مشابهة نوعاً ما لقصة الشاعر العراقي حسن المرواني ومحبوبته التي أرمزها في قصيدته بليلى كاستدعاء تلميحي وتاريخي لثنائية أسطورة الحب العربي : قيس وليلى، وأعني من وراء ذلك كله ظاهرة الحب المترسخة من الطرف الذكوري فقط مقابل غياب التعبير عن وجهة الطرف الأنثوي بسبب العوامل الثقافية والمجتمعية السائدة آنذاك، فحديثنا اليوم عن ظاهرة نفسية من الدرجة الأولى وتستحق الدراسة والوقوف عليها وهي ظاهرة الشاعر كامل الشناوي، صاحب الإحساس المرهف بدرجة عالية، يرى رفاق دربه ومعاصريه أن إشكاليته تكمن في قسماته الشكلية التي كانت بعيدة عن معايير الوسامة والجمال، فقد كان مفرط البدانة وجاحظ العينين لكنه في المقابل يحمل بين جنباته قلباً مرهف الحساسية، يبكي من كل موقف إنساني عابر ويتأثر مع كل نسمة هواء، قصصه مع الجميلات والحسناوات لا تعد ولا تحصى، كان يعشق إحداهن من أول نظرة وهذا أمر قد نحسبه طبيعياً عند بعض الناس لكن الإشكالية أنه كان يتوهم في قرارة نفسه أنها تبادله ذات المشاعر والأحاسيس، وعندما يتفاجأ بالحقيقة تحصل الكارثة، فيتفطر قلبه وتتوجع نفسه وتتأثر نفسيته الثائرة ولا يرتاح إلا بقصيدة تحمل النفس التشاؤمي المرير لتطفئ نار الصدمة وتعيده إلى مساره الطبيعي!
يقول الكاتب أنيس منصور عنه أن انكسارات الحب التي أوجعته في صميم قلبه جعلته لا يقدر على النوم بسهولة، فكانت طريقته الوحيدة أنه يستقل السيارة ويظل يهيم بها في شوارع القاهرة حتى يتعب وترتاح أعصابه فركن على قارعة الطريقة ثم ينام على مقعد السيارة، وذات يوم توافق عيد ميلاده (7- ديسمبر) مع قصة حب فاشلة وانكسار عاطفي عنيف أوجع قلبه وأرهق نفسيته الثائرة، فكتب قصيدة فلسفية تشاؤمية تنبض بالدموع والشقاء والعذاب:
عدت يا يوم مولدي
عدت يا أيها الشقي
الصبا ضاع من يدي
وغزا الشيب مفرقي
وبعد أن قرأها فريد الأطرش على صفحات إحدى الجرائد تأثر كثيراً وأصر على تلحين وغناء القصيدة رغم أنها كانت ضمن مشروع لحني للموسيقار محمد عبد الوهاب، ولعل إصرار الأطرش يأتي من كون الشخصيتين تتقاطعان في دائرة الانكسار العاطفي وصدمات الحب العنيفة والمتكررة، والملاحظ في أدب الشناوي كما أسلفنا أنه يحمل طابع الفلسفة التشاؤمية، ولعل أشهر حكايات غرامه الجنونية كانت مع مطربة شهيرة، كان يحبها لدرجة الجنون ويحدث أصحابه ورفاقه أنها تبادله نفس المشاعر، فكلما لاحت ابتسامة لطيفة من ثغرها توهم أن وراء تلك الابتسامة مشروع حب يرتسم لمستقبلهما، لم يكن يعرف شيئاً عن سلوك المجاملة أو فنون المداهنة، فكل ابتسامة امرأة تحمل وراءها طريقاً إلى أعماق قلبه، هكذا كان يعتقد أو يتوهم إن صح التعبير، وتكررت صدماته العاطفية مع تلك المطربة حتى أدرك أخيراً أن حبه من طرف واحد، وأنها لا تفكر فيه أبداً، فتكالبت الهموم على صدره وتثاقلت الأحزان في نفسه، ولم يعد يحتمل الحياة بعد ذلك الإدراك الصعب، فقرر أن يواجه محبوبته بعشقه وحبه وأنه مصدوم من إعراضها عنه، فاتصل عليها ليصارحها بمشاعره عبر قصيدته التشاؤمية الشهيرة:
لا تكذبي إني رأيتكما معاً
ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا
ما أهون الدمع الجسور إذا درى
من عين كاذبة وأنكر وادعى
كان يسرد أبيات القصيدة لها بالتليفون والدموع العسيرة تتساقط على وجنتيه، كان يحاول أن يخفي حسراته وعذابه أثناء الإنشاد، فاستمر يقول:
ماذا أقول لأدمع سفحتها أشواقي إليك
ماذا أقول لأضلع مزقتها خوفاً عليك
أأقول هانت..؟ أأقول خانت؟!
أأقولها؟ لو قلتها أشفي غليلي..
يا ويلتي..
لا، لا، لن أقول أنا فقولي..
لقد كان يتمنى أن يسمع ردة فعل إيجابي ة تتفاعل مع آهاته وعذابه التي تحترق نارها في قلبه، لكن لم يحدث شيئاً من ذلك على الإطلاق، فاستمر ينشدها حتى وصل إلى مقطعه الأخير:
كوني كما تبغين، لكن لن تكوني..
فأنا صنعتك من هواي، ومن جنوني..
ولقد برئت من الهوى ومن الجنون!
وبعد أن تيقنت المطربة الشهيرة من انتهاء القصيدة، بادرته بكل برودة أعصاب: قصيدة رائعة.. وأنا مستعدة لغنائها!