د.نادية هناوي
عمد الناقد الغربي الحديث بشكل أو بآخر إلى محو الإرث السردي العربي بكل ما فيه من منجز تاريخي وتقاليد فنية ونماذج وأشكال، متجاهلاً التقارب الجغرافي ما بين الحضارة العربية الإسلامية وأوروبا، وما يفرضه هذا التقارب من انتقال حتمي وطوعي للتقاليد السردية والتأثر بها والسير على منوالها زمناً غير قليل. وابتعد منظرو الرواية عمَّا كانت تسير عليه في نشأتها من تقاليد ذات قاعدة لا واقعية كسمة دالة ومميزة للسرد القصصي الأوروبي من قبل أن يصبح للرواية قالبها الخاص كجنس جديد في حدود مئة عام من عمرها. وهذا الابتعاد بالرواية عن الأصول التي قامت عليها جعلها تبدو جنساً أدبياً وُلِد من فراغ؛ وكأنما لا امتداد لها مع سرديات العصور الوسطى، بل هو امتداد لأحد الأجناس الكبرى المعروفة في عصور ما قبل الميلاد وهو الملحمة!
والمفارقة كبيرة في أن تكون القطيعة التاريخية حاصلة بين الرواية والقصة التي عنها تطورت بينما يكون الردم حاصلا بين جنسين بينهما تاريخ طويل هما الرواية والملحمة. وهو أمر لا يقبله منطق التطور الفني الذي فيه أواصر التواصل بين القصة العربية والسرد الأوروبي قائمة ومستمرة.
إن هذا التركيز على واقعية الرواية لم يكن القصد منه الابتعاد بالسرد عن خرافيته ولا واقعيته حسب، بل جعل الواقعية تقليداً مستحدثاً، به تمحى سائر التقاليد السردية السابقة والسائدة، وتحل محلها تقاليد توصف بأنها أوروبية أو غربية. هذا هو الأمر الذي استحوذ على تنظيرات الأمريكي برسي لوبوك الذي وجَّه نقد الرواية توجيها واقعياً في كتابه (صنعة الرواية)1921 متجاهلاً مسألة الأصول كما تناسى العمر الفتي للجنس الروائي، واهتم بدلاً من ذلك بحيثيات الرواية الفنية ومسائلها التقانية، مفيداً من التطورات في مجال العلوم الإنسانية كعلم اللغة والاجتماع وعلم النفس وغيرها.
وهو ما أسس للنقد الحديث مناهجه السياقية، واستمرت وتيرة التجاهل للأصول والتقاليد أكثر مع المناهج النصية أيضا. وما من سبب وراء هذه الرغبة في الاهتمام بالموضوع والشكل على حساب القطيعة مع التقاليد سوى حيازة السبق في ابتداع جنس جديد وتوكيد غربيته وعائدية أي تنظير فيه إلى العقل النقدي الغربي كنوع من الوعي المنحاز إلى تفوق العرق الأبيض عالمياً ولدعم مكانة أدبه بين آداب الأمم الأخرى وتأكيدا لحقيقة أن النظرية الأدبية هي عبارة عن صناعة أسسها نقد غربي لا يعرف عنه الآخر غير الغربي شيئا، وإن كان هذا الآخر ذا تراث أدبي ثر ومشهود، وهو ما يدركه لوبوك لكنه يتجاهله بالقول: (أن تراقب الحرفي الذي يعرف ما يقوم به أو أن تراقب من لا يدري من أمره شيئا؟ لا شك في أن المعرفة السهلة تأتي من الأول لو أردت أن تدرس الصنعة وأصولها.) ولأجل تعميق النظر إلى الواقعية، شرع الناقد في البحث عن مفاهيم تساعد في وضع نظرية في الرواية، فوجدها في مفهوم الفن وفصل الشكل عن المضمون كطريق سالكة نحو الحديث عن الرواية بوصفها صنعة شكلية والتنظير لها بثقة كبيرة.
وما دامت الرواية صنعة ولا تاريخَ مهما لها يمكن مناقشته، فلا بد إذن من أن تكون مولودة من فراغ في القرن السابع عشر ومتجسدة جنساً أدبياً في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. وإذا كان لوبوك قد وجد في روايات هنري جيمس تقانات شكلية مهمة، فإنه رصد في روايات تولستوي مآخذ كثيرة، منها طبيعة التشكيل الواقعي لرواية (الحرب والسلام) فالزمن عند تولستوي يتقدم ولا يتوقف عند نقطة وأن لا نهاية لها علاقة بمغزى أخلاقي. وعلى الرغم من إشادة لوبوك برواية تولستوي (آنا كارينيا) التي عدها رائعة من روائع فن التصوير الروائي، فانه وجد أن الكاتب غير هيّاب من الثغرات الكبيرة.
وإذ لم يقتنع لوبوك بطرائق تولستوي الواقعية، فإنه اقتنع بواقعية فلوبير في تصوير شخصية أيما بوفاري وماضيها، لأن موضوعها لا يعتريه الخطأ بسبب الطرائق التي اتبعها فلوبير في السرد. وتساءل كيف اعتدنا التمييز بين هذه الطرائق المتنوعة تماما لعرض حقائق قصة من القصص؟ وجاء جوابه في شكل مقارنة بين لا واقعية ديفو وواقعية فلوبير، منتصراً للأخير (أن ديفو يسلك سبيلاً مباشراً في حين أن طريق فلوبير هي طريق ملتوية ألا أن الانعطافات المفتوحة امام فلوبير عديدة لا تحصى ونحن نعني بأسلوبه أو أساليبه المتنوعة طريقته في اختيار سبيله.)
ولم يحدد لوبوك ما هي هذه الطرائق الشكلية لكنه كان قاصداً أمراً محدداً وهو أن ما سار عليه ديفو من تقاليد موروثة، كان فلوبير قد سلك غيرها. وبالمقارنة بين واقعية تولستوي وواقعية فلوبير، يبدو برسي لوبوك منحازاً في تقدير ما لفلوبير من ابتكارات شكلية بينما ليس لتولستوي أي ابتكار، بل عنده (هفوات لا تغتفر).
ولما كانت الواقعية شكلاً وطريقة أسلوب، فإن الصوت السردي واختلاف الضمير المستعمل هو الامر الشكلي الثاني الذي درسه لوبوك. فأحياناً يتحدث المؤلف بصوته وأحيانا أخرى يتحدث من خلال أيما نفسها. وعلى هذا الغرار يحلل لوبوك مشهد الريف الجميل الذي يكون فيه نصيب لأيما أو يصف مظهر وسلوك جيرانها أو سلوكها هي. أما فلوبير فيستخدم لغته الخاصة وبحسب مستوى حكمه على الأشياء. فهو - كما يرى لوبوك - يواجه القارئ في شخصه مهما كان حذراً من أن يقول شيئاً قد يصد اهتمامنا عن الشيء الذي يصفه. إنه يعمل على إعادة صياغة شيء يكمن في ذهنه وبعد ذلك يستعمل عين شخص آخر أو أفكاره؛ فالصوت هو صوت المؤلف أو صوت إحدى شخصياته التي ابتدعها، أما كأسلوب تصويري في معالجة الموضوع، وأما كأسلوب درامي يجعل القارئ حاضراً في المشهد مع الأحداث المسموعة والمرئية.
واختلاف الصوت بين مؤلف يكتب وشخصية تقوم بالحدث قد يجعل المؤلف يقوم بكلتا العمليتين في روايته أو ربما في الصفحة نفسها أو في الجملة (إلا إن الكاتب الروائي عادة ما يتمسك بحريته لكي يعتمد على أي من المصادر التي يختارها مرة هذا المصدر وأخرى ذاك وقد يستعمل المسرحية حينما توفر له هذه المسرحية كل احتياجاته أو يستخدم الوصف التصويري حينما يتطلب شكل القصة ذلك. أما القانون الوحيد الذي يقيده، فهو الحاجة لأن يكون ملتزماً بخطة معينة). والأمر الآخر المترتب على واقعية الشكل هو أن يستبعد المؤلف نفسه من العمل الروائي فينصب عمله على الطريقة التي بها يصور الشيء باستعمال (وجهة النظر) التي (هي تركيب من مزيج من الفعل الدرامي.. بشكل تصويري والوصف التصويري الذي يعرض دراميا وهذه الألفاظ التي استعملها باستمرار) فلا يكون ضرورياً إقحام المؤلف لخصوصيات شخوصه التي لها وجهة نظرها الخاصة. أما إذا أمكن له العرض فلا مدعاة للذهاب إلى وجهة النظر والغوص في أعماق الشخصية.
إن تركيز لوبوك على أساليب الشكل الروائي التي تعطي للمضمون واقعية، لم تحل دون أن يمر بما له صلة بالأصول التاريخية للسرد وتقاليده المبنية على اللاواقعية لكنه - وانطلاقاً من تحيزه للأدب الغربي - أشار إليها إشارات عابرة وعرضية من دون التطرق إلى الإرث السردي كي تبقى الصورة التي رسمها للرواية كما هي، بوصفها جنساً أدبياً جديداً، ولا صلة لها بتقاليد كانت قد سارت عليها القصة الأوروبية الكلاسيكية.