خالد محمد الدوس
ولد العالم الاجتماعي والناقد الأدبي (لوسيان غولدمان) في مدينة بوخارست عام 1913م، وقضى طفولته في رومانيا وبعد أن أتم دراسته الثانوية التحق بجامعة بوخارست ودرس القانون، وتعرف خلال دراسته الحقوق على الفكر الماركسي واحتك به فعليا بتأثير مباشر من العالم النمساوي الشهير (ماكس أدلر).
وفي عام 1934 واصل تعليمه العالي بعد انتقاله لفرنسا، وبدأ مشروع الدكتوراه في جامعة السوربون وتخصص فيها «بالاقتصاد السياسي»، وفي باريس العاصمة التي شهدت ولادة علم الاجتماع في قالبه الأكاديمي تشكلت أولى ركائز منهجه السوسيولوجي، وبعد احتلال القوات النازية فرنسا في تلك الأيام الخوالي أودع في السجن غير أنه استطاع الهرب متجها بعد ذلك إلى سويسرا، غير أن النازيين كشفوا أمره واعتقلوه مرة أخرى إلى أن اخرجه الفيلسوف الفرنسي الشهير (جان بياجيه)، بعد أن توسط له وإعطاءه منحة دراسية لرسالة الدكتوراه ليبدأ بالتحضير للدكتوراه مرة أخرى، وتخصص بدراسة فلسفة العالم (كانط) وكانت اطروحته بعنوان «المجموعة الإنسانية والكون لدى الفيلسوف «إيمانويل كانط». بالإضافة إلى عمله مع (جان بياجيه) الذي عينه لاحقا مساعدا له في جامعة جنيف، حيث تأثر بأعماله حول البنيوية التكوينية التي صاغها العالم النفساني بياجيه على قرب من المفاهيم الماركسية، لكن غولدمان قام لاحقا بترحيل البنيوية التكوينية من مجال علم نفس الذكاء إلى مجال علم الاجتماع مطعما إياها بالمقالات الماركسية.
وفي العاصمة السويسرية جنيف بدأت تتبلور أفكار منهج غولدمان وشرع في التقارب بين الفكر الماركسي والنظرية التكوينية لبياجيه، بالإضافة لاكتشافه الأعمال الكبرى للمفكر الهنغاري الماركسي جورج لوكاتش وهي «الروح والأشكال» و»التاريخ والوعي الطبقي» ونظرية الرواية وعكف على دراسة أفكار لوكاتش ومقولاته الفلسفية، والتي تأثر بمنهج المفكر العملاق لوكاتش، فبعد اكتشاف غولدمان مؤلفات لوكاتش عكف على فهم الفكر اللوكاتشي، فكان بذلك اول مفكر أوروبي يبحث في المنهج اللوكاتشي، ومن شدة إعجابه به ألف كتابا بعنوان: (لوكاتش وهايدغر) باعتبارهما من اهم الاعلام البارزين في الفلسفة في أوروبا آنذاك.
بعد تحرير فرنسا عاد غولدمان إلى باريس، حيث اشتغل كباحث في المركز الوطني للبحث العلمي وانجز رسالة دكتوراه في الادب في الخمسينيات الميلادية، ثم نشر كتابه» العلوم الإنسانية والفلسفة» عام 1952 ثم اصبح رئيس قسم علم الاجتماع الأدبي بجامعة بروكسل فاصدر كتابه «من اجل علم اجتماع للروية» ثم كتابه «البنيات الذهنية والابداع الثقافي» وكتاب أيضا «الماركسية والعلوم الإنسانية».
صاغ العالم غولدمان نظرية البنيوية التكوينية أو التوليدية في النقد الأدبي وذلك امتدادا لإسهامات الفيلسوف والمفكر جورج لوكاتش إلى جانب عالم الاجتماع الفرنسي الفذ بيير بورديو للربط بين التطور الاجتماعي والتطور الأدبي في مضامينه وأشكاله، وقد أدت تلك الجهود من هؤلاء الفلاسفة والعلماء الافذاذ الى نشأة وولادة (علم الاجتماع الأدبي)، تلك الجهود التي جاءت لسد ثغرات المنهج البنيوي على اعتبار أنها تجمع ما بين البعد الاجتماعي والبعد اللغوي استجابة لسعي بعض المفكرين والنقاد الماركسيين وعلى رأسهم الفرنسي لوسيان غولدمان للتوفيق بين أطروحات البنيوية في صيغتها الشكلانية من جهة، وأسس الفكر الماركسي الجدلي من جهة أخرى والذي يركز على التفسير المادي الواقعي لعموم الفكر والثقافة, وتقوم البنيوية التكوينية على مرتكزات أساسية حددها العالم والمفكر غولدمان تبعا لنوعية وطبيعة العلاقة بين الحياة الاجتماعية والابداع الأدبي، وهي علاقة تقوم على أساس التماثل الوجودي بين النص الأدبي وعلاقته بالبنيات الذهنية لفئة اجتماعية.. ومن هذه المرتكزات: رؤية العالم التي تعد من أهم هذه المرتكزات الأساسية التي تبنى عليها البنيوية التكوينية التي عرفها لوسيان غولدمان «بأنها مجموعة من التطلعات والاحساسات والأفكار التي توحد أعضاء مجموعة اجتماعية أو طبقة اجتماعية وتجعلهم في تعارض مع المجموعات الأخرى، حيث تمتاز الرؤية عند غولدمان بميزتين هما الشمولية والانسجام أو التماسك. كما ذكر من المرتكزات أيضا الوعي القائم والوعي الممكن يشير إلى الصلة القائمة بين الوعي والحياة الاجتماعية، فالوعي القائم: هو ادارك فئة اجتماعية ما لوضعها الراهن سواء في علاقتها مع الطبيعة أم في علاقتها مع الجماعات الأخرى. أما الوعي الممكن: فهو اقصى ما يمكن ان يبلغه وعي الجماعة دون أن يؤدي ذلك إلى إحداث تغيير في طبيعتها.
وهنا لابد أن نوضح البنيوية التكوينية (التوليدية) للوسيان غولدمان وهو «المنهج الذي يتناول النصوص الأدبية بوصفها بنية إبداعية تولدت عن بنية اجتماعية», وبالطبع أن البنيات المجتمعية متعددة من منظور غولدمان.. فهناك البنيات الاقتصادية, والبنيات الاجتماعية والبنيات الثقافية والبنيات السياسية.
لقد كان غولدمان معجبا بنظرية الذكاء عند العالم الفرنسي جان بياجيه وتأثر: «بنظريته التوليدية في المعرفة»، فاستلهم من بياجيه على المستوى الابيستمولوجي التكويني مؤكدا أن السلوك النفسي المحرك لكل فرد يكمن في علاقته مع الوسط المحتضن.
من أشهر مؤلفاته كتاب «البنيوية التكوينية والنقد الأدبي» الذي تحدث فيه بأن الروية كنص أدبي ليست مجرد قصة خيالية منفصلة عن الواقع الاجتماعي..!! بل هي انعكاس ومرآة للمجتمع الذي انتجها، وتعبر عن التجارب الاجتماعية والصرعات الطبقية والتحولات الاجتماعية والتغيرات الثقافية التي تحدث في المجتمع.
توفي العالم الاجتماعي والمفكر الأدبي لوسيان غولدمان وهو في قمة عطائه العلمي وانتاجه المتنوع في باريس عام 1970 عن عمر يناهز 57 سنة، بعد أن ساهم في تأسيس ميدان مهم من ميادين علم الاجتماع المتمثل في «علم الاجتماع الأدبي» كعلم خصب ومجال شامل يجمع بين الجوانب الاجتماعية والأدبية والفلسفية والثقافية والفكرية التي تتكئ على أسس نظرية ومنهجية علمية رصينة.