علي حسين (السعلي)
هذه الرواية تحكي قصة شاب ارتيري عاش في المملكة العربية السعودية تحديداً في مدينة جدة في حارة «النزلة» بنصف حنين ونصف غربة، ونصف وطنية ونصف انتماء، ونصف وحشة يبحث عن الهوية والانتماء. الرواية تسرد أوجاع المغتربين الذين أجبرتهم ظروف بلادهم على الخروج منها وعمر البطل «الراوي العليم» حكى تجربة المغتربين الذين لم يروا الوطن إلا عبر قناة ارتيرية، التي بدأت بلقاء فتاة جميلة بنظر البطل اسمها سمراويت من أصل أريتري وأم شاعرة لبنانية، وتنشأ علاقة حب حميمية طوال الرواية.. الرواية لا تمضي صفحة أو صفحتين من الرواية حتى يعود للسعودية مدينة جدة وهناك يحكي مع صديقيه أحمد ومحمود اللذين يمثلان جبهة شعبية وأخرى معارضة وعمر يقف في مسافة بينهما لا إلى هذا ولا إلى هذا وهكذا تستمر الرواية في الأغاني والذكريات من حديث جدته وقهوتها وبين أمه المطوعة كما أشار في الرواية، وسمراويت معه في التجوال في أرتيريا ومدينتي أسمرا ومصوع... ومواقع الثوار وأماكن سجنهم بعد الاستقلال وهكذا يمضي عمر في حكايته حتى يصدم بخبر من حبيبته سمراويت بأن أمها رفضت الارتباط به وكذلك والدها لتنتهي الرواية بخيبة أمل.
والأن نفصّل في قراءتنا النقدية اللغوية والمفردات والدلالات ومعانيها من خلال لغة الرواية، الشخصيات وعلاقتها مع بعض، الأماكن وارتباطها بمكانين مختلفتين بدولتين العنوان وعلاقته بالفتاة سمراويت، الثيمة التي تحملها الرواية، كذلك الصوت الداخي بالرواية من قلق وصراخ صامت مشوب بالفرح والحزن وعلاقتها بسمراويت والخارجي من خلال الطائرة واستباق الأحداث وأخيراً القيمة والهدف:
الثيمة التي تحملها الرواية ولغتها
الثيمة التي تحملها الرواية هي: البحث عن الهوية، الافتقاد إلى وطن تنازع بطل الرواية «عمر» مرحلتين مرحلة الولادة والنشأة بالسعودية في جدة وحارة النزلة وبين أسمرا وتحديداً مصوع مدينته بأريتيريا، هو يعيش قلق دولتين: دولته أرتيريا ودولة النشأة السعودية، وما بين جدة ومصوع تبدأ الرواية على طريقة «الفلاش باك» العودة للجذور والحكاية عن الواقع مغترباً
المفردات والدلالات ومعانيها من خلال لغة الرواية
الرواية: لغتها شاعرية، رومانسية علاقة حب مع عشيقة تقابلا في شارع مودرنا ومن إلى المقهى استمرت رحلة السرد وانتهت، ما يهمنا هنا بأن كثرة وجود «كان» واسمها المضمر وخبرها المنصوب مبثوثة في الرواية مشوبة بقلق الوجود وهو الاغتراب «كنت مرعوباً، كنت مشتاقاً، كنت فرحاً، كنت مرتبكاً جداً... في آخر صفحات الرواية ذكرت كان واسمها وخبرها لكن هذه المرة أتى اسمها في جملة وليست مضمرة واختفى خبرها بقوله «كنت لا أزال معطياً ظهري للمارة وهذا يدل دلالة واضحة على أن كاتب الرواية وبطلها وكل الشخصيات التي وردت في هذه الرواية يعيشون قلقاً, تردداً، وحيرة... بين ما هو كائن والمفترض أن يكون ولعل بداية الرواية كانت متخيلة في ذهن البطل عمر وهو لا يزال معلقاً في كرسي بالطائرة.
الشيء الثاني:
كثرة ذكر الثلاثة وما يتبعها «ثلاثة أعوام في كنف المطاوعة، ثلاثون عاماً من الاستعمار، ثلاثيني في المتحف، شرب ثلاثين فناجين منها. عطفاً أنه على ما جاء في بداية الرواية بقوله: ثلاثون عاماً كانت المسافة... هذه الثلاثية إن جاز لي التعبير تدل على الغربة، الشوق، خيبة أمل وهذا ما عبرت عنه الرواية في آخر جملة منها:
يا للأسى.. حتى الوطن بات مثلنا تماماً، شيئاً طارئاً. ثلاثون عاماً من الغربة لم تكن كافية لمعرفة كيف يعيش بين نصفين: نصف انتماء ونصف جذور....
الشخصيات, الأماكن وارتباطها بمكانين مختلفتين
هذا القلق يستمر في الشخصيات حتى في الأماكن:
الشخصيات: سمراويت، مقهى بمودرنا، أحمد، محمود، عثمان الذي يشبه اللاعب السعودي محيسن الجمعان، إدريس محمد علي، السيد الأفندي، ناود صاحب الرواية محمد سعيد، عمر بطل الرواية والأكيد الراوي العليم....
الأماكن: الطائرة، الفندق، القنصلية، الكاتدرائية الكنيسة الإيطالية جامع الخلفاء الراشدين، السفارة، متجر موسيقى، النادي الأدبي بجدة، الصحيفة وحكايته مع الشيخ والأكاديمي الذي وصف الأجانب بالجرابيع قبل أن يعلم أن عمر ليس سعودياً، قصور السلطان في مصوع قباب الأتراك الرواشين المصرية، نصب بوشكين وهو روسي من أصول أرتيرية: كل هذه الشخصيات مرتبطة مع بعض بين نقيضين أحمد/محمود، عمر / الراوي، الجدة / الأم، سمراويت من دلالة الاسم والمعنى سنتحدث عن ذلك لاحقاً، الأب مناضل / والدة سمراويت شاعرة لبنانية، والأعجب من وجهة نظري في الأماكن:
الطائرة / الأرض، الفندق / القنصلية، الحارة / مصوع، الكنيسة / جامع الخلفاء، قباب الأتراك / قصور السلطان حتى اليمن ذكرت في الرواية كأشخاص ومقيمين في الآبار التي ذكرت في الرواية وكأن الرواية تريد أن تقول لنا: دولة أرتيريا بها كل المتناقضات أثرية سياحية، معالم فاتنة، وكأن الكاتب من راويه وبطله وكل الشخصيات والأمكنة والأزمنة على كل حال تشكي الحال استعماراً وتناحراً بين شعيبية ومعارضة وتبقى الأرض حلم كل مغترب بالعودة لوطنه رغم بعده عنه وفي نفس اللحظة يريد أن يبقى المغترب بعيداً عن وطنه يلاحظ ويشتاق ويتأمل في القادم بأمل يعود محملاً بالذكريات.
الصوت الداخلي / الخارجي في الرواية
من قلق وصراخ صامت مشوب بالفرح حين وجد سمراويت والحزن وعلاقتها بسمراويت، والخارجي من خلال الطائرة واستباق الأحداث، نحن هنا ما بين السفر الكتابي من مكان لأمكنة من زمان لأزمنة، فالمكان جدة حارة النزلة والأمكنة أسمرا، مصوع موطن آبائه وأجداده وما بينهما تسرد الذكريات زماناً ومكاناً، إذاً فأين الصوت في الرواية؟
أما الصوت الداخلي بالرواية فيبدأ بالتالي:
صوت الفرح بأن عمر بطل الراوية يسافر إلى دولته بعد ثلاثين عاماً قضاها في جدة والالتقاء بحبيبته بمعنى أنه التقى بها مرتين الأولى في المقهى وغرامه بها والثانية في المقهى أيضاً لكن باستقبال قرار رفض والدتها الارتباط بها، كذلك بيت جدة بمصوع البحر، بعض الأماكن القديمة الأثرية الدبابات التي بقيت، السجون التي فوق وتحت الأرض كل هذا هو صوت داخلي عبرت عنه الرواية بذكاء هناك صراخ داخلي أتى من لغة الرواية وطريقة الوصف لها، كذلك الرقص الموسيقى بالطريقة التغرنية الأريتيرية، التراث أيضاً هناك به صوت الكاتب شخّص كل هذا باستنطاق إن جاز لي التعبير بالجوامد في أغلب السرد الروائي.
أما الصوت الخارجي في الراوية:
الانتظار، القلق، الشوق، الحنين، الصراخ فما الذي يدل على ذلك؟ إنه صوت محركات الطائرة: في مقعد الجلوس واسترجاعه للذكريات وانتقاله من الأعلى إلى الأرض ومن الأدنى إلى الأعلى وكأن الكاتب أراد الهبوط كتابياً إلى الصعود وهكذا دواليك، والسؤال العجيب الافتراضي هنا: هل فعلاً ركب الطائرة، وهبط إلى المطار أم بقي معلقاً؟ مجرد ذكريات أو لنقل سيرة غيرية! طلوع شمس إلى غروب شمس يقول من الرواية «أصبحت لقاءاتنا تبدأ مع طلوع الفجر لتستمر طوال اليوم لا يضع لها نهاية إلا غروب ذات الشمس التي أعلنت البداية».
سطر وفاصلة
أحبها وأريد أن تعيش فيّ لأتشهّى أنفاسها بداخلي
- هي لا تعشقنك؟
- أعرف
- فما العمل إذاً؟!
- سأحبّها على طريقتي
- كيف تحبها وهي تعلم ولا تهتم؟
- سأخطفُ من شفاتها ألفاً
من خديها حاءً
من بائها رمشاً
من هائها نغماً
من ألفها ذهباً
- وكرامتك؟
- حين تحب وتعشق تعرف أن الكرامة
في الغرام سلام
والسلام