محسن علي السهيمي
مع تزايد أعداد الشعراء في الوطن العربي رأينا كيف أن الجوائز المعنية بالشعر حاولت مسايرة هذا التزايد؛ فمن حين إلى آخر تَظهر لنا جوائز تُحسب على الشعر، ومن قُطر إلى قُطر تظهر لنا جوائز تدَّعي أنها قامت للشعر، وعليه فالعناية بالشعر والشعراء حالة محمودة تشي بقدر من الوعي في سبيل الرقي بهذا الجنس الأدبي الرفيع والاحتفاء به وبمبدعيه.
غير أن ما يكدر العناية والاهتمام بالشعر العربي هو جنوح بعض تلك الجوائز إلى اتجاهات تنحى بها إلى مسالك لا تتقاطع مع غاياتها المعلنة، وأحيانًا لا تتقاطع مع مسماها ذي الدلالات التاريخية الراسخة في الذاكرة الجمعية العربية، وأحيانًا لا تتقاطع مع الشعر وغاياته ومقاصده؛ ومن ذلك أن جائزة للشعر تُدعى (جائزة الأركانة العالمية للشعر) مَنحت قبل أسبوعين جائزتها للشاعر قاسم حداد -ولستُ هنا بصدد مناقشة استحقاق الشاعر للجائزة، فهذا أمر يعود لمعايير الجائزة وأهدافها المعلنة والمضمرة- لكنني بصدد (تقرير لجنة تحكيمها) الذي جاء تحت عنوان (تقرير لجنة تحكيم جائزة الأركانة العالمية للشعر 2024) وهذا التقرير منشور في حساب (المغرب الثقافي) على الفيسبوك؛ فقد ظهر من التقرير أن لجنة التحكيم لم تقف في اختيارها الشاعر الفائز بالجائزة على المعايير المتعارف عليها الخاصة بشاعريته ومسيرته الشعرية وما في حكمها، ولو أنها توقفت عندها فهذا شأنها ولها أن تجعل منها معايير صارمة ولها أن تعمد لتمطيطها، لكن الأمر تخطى تلك المعايير فأظهر المُضمَر من أهداف الجائزة ومقاصدها.
القارئ للتقرير يجد أن اللجنة كانت (مهتمة جدًّا وحفيَّة بشكل لافت) بقضية خروج الشاعر على نسق القصيدة العربية الأصيلة التي تقوم على الوزن والقافية -وإن لم تصرِّح بذلك بشكل مباشر- ولذا نجد التقرير يفيض بعبارات تبين حجم هذا الاهتمام؛ فنجد في صدره هذه العبارة «اضطلَعَتْ به قصيدَتُهُ في التّصدِّي للتقليد» وهو ما يعني الكشف المبكر عن أهداف الجائزة وهو الوقوف بوجه القصيدة العربية بواسطة الشعراء الذين يسيرون في هذا الاتجاه، ونجد أيضًا هذه العبارة المشابهة «وفي استنباتِ ما يُحْدِثُ الصُّدوعَ في قِلاعِ التقليد»، إذن فالغاية واضحة وجلية وهي هدم ما يسمى من وجهة نظر الجائزة (التقليد) ممثلًا في القصيدة العربية الأصيلة، ثم نجد أيضًا هذه العبارة «ويُحَرِّرُ اللغةَ والإنسانَ والحياةَ مِن سُلطة الخَنق والتَّقييد» وكأننا في حلبة مصارعة يقوم فيها الحَكَمُ الطليق (الشاعر) بتحرير رقبة مصارع لطيف (الشِّعْر) من قبضة مصارع آخر متوحش غليظ (الأوزان والقوافي)، ولو ذهبنا في قراءة التقرير لوجدناه قد حشد عددًا من العبارات التي تبين التوجُّه المضمر للجائزة في التصدي للقصيدة العربية الأصيلة، ومن تلك العبارات «لا موجهًا له بصورة قَبْلية»، «الثنائية التقليدية»، «أكبر من الشكل»…
وفي نهاية التقرير نجده يقول ثمةَ في قصيدة قاسم حداد «التصدي للتقليد». هكذا يكشف لنا التقرير - من حيث يدري أو لا يدري- أن الجائزة تحولت أهدافها من العناية بالشعر أيًّا كان شكله وجودته إلى التحيز الظاهر لشكل معين والاحتفاء بمَن يمارسه وعدم الاكتفاء بذلك؛ بل تشجيع من يخرج على شكل القصيدة العربية إلى الشكل الذي تختطه الجائزة، والأطم من ذلك تعمُّدها الهمز واللمز والقدح -من طرف خفيٍّ- في القصيدة العربية، ولعل الكَم الوافر من عبارات الهمز واللمز التي حفل بها التقرير يشهد بذلك.
وحينما نلتفت للمبررات التي ساقها التقرير لفوز الشاعر بالجائزة نجدها مبررات صيغت في عبارات فضفاضة غاية في التأنُّق والتنميق وكأن التقرير يتعمَّد خلق نصوص موازية ما يُضْفي هالة كبيرة وضوءًا باهرًا على فوز الشاعر، وهذه العبارات تصلُح لإسقاطها على شعراء كثيرين يدورون في فلك الشاعر ويستحقون هذه العبارات المنمقة التي دونها التقرير في تبريره لفوز الشاعر على شاكلة «فمِن تَوْسيع حِصَّة الحواسِّ في بناء شِعْرٍ مُتحرِّر مِنَ التجريد إلى تَمْكينِ عوالمِ الجَسد من صَوغ المَعنى، ومِن تَوليد الشِّعر الصّامت في ثنايا الأخبَار إلى استجلاءِ شعريَّة الأشياء، ومِنْ ترسيخ حَيويَّة اللون في تَمديدِ المساحات البَصريَّة داخل القصيدة إلى الكتابة اعتمادًا على مُسَوداتٍ شعريَّة، ومِنْ بناءٍ يُعوِّلُ على التّفعيلة إلى بناءٍ يَستثمرُ تفاعُلَ الشعريِّ والسَّرديِّ أو يتجاوَزُ البناءَيْن معًا».. وهلُمَّ زخرفةً وتفلسُفًا وتنميقًا.
لقد أدان التقرير -ربما من حيث لا يشعر- الجائزةَ عندما أبان شيئًا من أهدافها المضمرة ممثلة في اهتمامها بمن يخرج على نسق القصيدة العربية، وتعزيزه ومنحه أنواط الشرف، فتحوَّل التقرير -تحت تأثير منابذة القصيدة العربية الأصيلة- من سرد لمقومات الفوز التي أهَّلتِ الشاعر لنيل الجائزة (وهذا هو المُتعارَف عليه والمُفتَرَض) إلى سيل من السخرية من مقومات القصيدة العربية في محاولة للنيل منها وإظهارها بمظهر الجنس الأدبي الذي تجاوزه الزمن، وكأن لجنة التحكيم حينما تنابذ (القصيدة العربية الأصيلة) وتسخر منها -مع أنها في موقف لا يتطلب هذا الأمر- تُقر في ذواتها بقيمتها وتفوقها، خصوصًا ونحن نشهد عودة قوية إليها في الوطن العربي كافة وعودة الوهج إليها في العقود الثلاثة الأخيرة خصوصًا بعد أن تجددت في لغتها وصورها وأخيلتها وتراكيبها ورؤيتها، وبعد أن استقر في ذهنية الشاعر العربي -بعد أن طوَّف بين التجارب العالمية- أنها أصل أصيل في لغته وذائقته وأنها وسيلته الأمثل لإيصال خلجات نفسه للآخرِين، ؤأنها الوعاء الأجمل الذي يستوعب مشاعره وأفكاره، وأنها وحدها التي تعبِّر عن هويته العربية بعمقها وأصالتها.