أقسمت قسماً لن أحنث به, وما قسمي ذاك إلا لشخصية يكفيها تميزاً وجمالاً في سردها وقصصها.
أنه بقيت قصة من قصصها وكتاب من كتبها التي ألفتها في عقل ووجدان طفلة صغيرة قرأَتْها وهي في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرها فأقسمت أنها ستكتب يوماً وستنتصر لي وضحى بطلة قصة ذلك المبدع والكاتب السعودي.
وها هي تلك الطفلة أصبحت شابة وأبحرت في مجال الكتابة والتأليف وبالذات عبر صفحات تلك الأنيقة التي كانت وهي صغيرة تشتم رائحتها وتزهو بنجاحاتها وإن عز اليوم عليها أن تجدها في منافذ البيع وواجهات المحالّ, كما كانت في أوج عزها وقوتها.
ولكن ستبقى صحيفة الجزيرة تلك الأنيقة في عقل ووجدان طفلة الأمس وشابة اليوم وكهلة الغد هي الجمال والثقافة والنافذة التي اختارتها اليوم لتفي بقَسَمِها الصغير.
ولِتكْتُبْ وهي في حيرة وخجل من أمرها لأنها لا تتذكر ذلك الكاتب السعودي الفذ.
إلا أنهُ بقي أثرهُ في خلدها وتتمنى أن أحداً يفيدها باسمه ومجموعته القصصية تلك لتعيد قِرَأَتِها وتتمنى من أعماقها أن يقرأ لها اليوم قصة (لندن وسط باريس ) وهذا العنوان هو جزء من الحوار في قصة نُشِرَت له قبل ربع قرن أو أكثر من ذلك.
لندن وسط باريس
إن السواد الأعظم من قبائل نجد انقسموا إلى قسمين: قِسم منهم استوطن الرياض وبعض المدن الأخرى, بعد توحيد الملك عبد العزيز للجزيرة ونشأت الدولة السعودية الثالثة ,وعملوا بالتجارة وبدأت مظاهر التمدن والرفاهية تظهر عليهم, والقسم الآخر منهم مكث على حالة ارتحاله الأولى يحب حياة البادية والتنقّل حتى أتى عهد الملك فيصل وأصبح التعليم إجبارياً للأبناء وأُقر تعليم البنات وأصبح أولئك البدو الرحل من تلك القبائل مستوطنين لبعض القرى والهجر في أيام الدراسة مرتحلين عنها في أوقات الربيع.
وفي كل هجرة أُنشئت مدرسة للبنات والبنين حتى أتى عهد الملك خالد وأصبح تعليم الفتاة أمر شبه إجباري وانتشر الوعي وأكدت الدولة حرصها واهتمامها بتعليم الفتيات ونشأت معاهد المعلمات لسد الحاجة من المعلمات السعوديات.
وفي هذا العهد ولدت وضحى في هجرة من هجر المملكة ,بعد أن يائس والدها من أن تصبح له ذرية وقد طعن في السن.
و لقد أتى خبر ولادتها لذلك الأب المسن كمذاق الماء الزلال على الظمأ.
فكانت تلك الطفلة عينه التي يرى بها ويده التي يقضي بها أمور حياته , وعصاه التي يتكئ عليها عند ضعفه وعجزه ولك أن تتخيل أي علاقة بين ذلك الأب وتلك الابنة.
وكبرت وضحى متنعمة بحب أبيها وتربيته, تعلمت وحصلت على الشهادة الثانوية ولأنها تعيش في هجر كان من الصعب عليها استكمال دراستها .
وتنقلها مع والدها جعلها تعزف عن دخول معهد المعلمات لتحصل على وظيفة, لأنها أصبحت كالطير كل يوم لها فضاء تحلق به.
كانت وضحى كأي امرأة من نجد حباها الله بالجسم الممشوق متناسق التكوين والخصر الدقيق, أما عنقها الطويل فقد كان كحلقة الوصل بين جمال النحر الذي ماثل البدر في تمامه وجماله ووجهها الذي زانه أنف دقيق وثغر صغير زاد من جماله شفتين ممتلئتين أما عيناها فقد كان في اتساعهما ما يسرق الأبصار والبصائر وكان ما يميز وضحى ويزيد في جمالها أنها امتلكت غمازتان فوق خديها سريعتي الظهور عند ضحكها أو ابتسامتها.
ولقد رزقت بالأخ عندما بلغت من العمر العاشرة ولكن مكانتها عند والدها لم تقِل أبدًا.
وعندما بلغت من العمر العشرين فوجئت ذات يوم بأبيها و هو يخبرها بأن ابن عمه الذي أصبح من تجار الرياض وأثريائها خطبها لابنه البكر والذي أنهى دراسته في الخارج وأصبح أستاذاً جامعياً.
استوطنت السعادة قلبها مما دفعها لتبني أحلام زاهية الألوان وعندما حانت منها استفاقة من أحلامها تلك اعتصر قلبها شيئا من الألم لفراق أبيها إلا أنها أخذت تبحر في التفكير وتُطمْئِن نفسها بأنها ستكون في نهاية كل أسبوع عند أهلها وأكثر ما كان يسعدها من أمر زواجها ذاك هو أنها ستكمل دراستها كما أنها ستسكن الرياض التي كانت تسمع عنها ولم تذهب لها وستلبس الثوب الأبيض كما في المسلسلات وو...
أفكار وأحلام تراودنا نحن البشر دائما عندما نبدأ مرحلة جديدة ولو أنّا تركنا تلك الأحلام والأفكار لما أُصبنا بنكبات المستقبل .
وهذا ما حصل لوضحى التي لم تتحقق أحلامها السعيدة تلك.
لقد عُقد قرانها وبنفس اليوم وجدت نفسها تركب بجوار زوجها دون أن يراها أو أن تمعن هي به النظر وها هم متجهون إلى المطار لتركب الطائرة المتجهة إلى باريس عاصمة الموضة آنذاك وكانت طول تلك الرحلة خائفة وذلك الرجل القابع بجوارها لا يهتم لها ولا يكترث لها بل لقد غير مقعده من جوارها كمن يهرب منها, لم تكن تعرف عنه إلا اسمه فقط... فيصل.
لقد أكسبتها حياة البداوة الصلابة والقوة لذلك رغم قسوة ذلك الموقف الذي وجدت نفسها تعيش في دوامته إلا أن خديها لم تفرح بجريان دموعها فوقهما.
ولعل هذا ما جعل فيصل الذي كان معها في تلك الرحلة الغريبة يتفقدها من بعيد كما يتفقد التاجر الواثق بضاعته التي لا يخشى عليها أي سوء.
وصلوا إلى باريس واستقروا في مكان إقامتهم، وأخذت وضحى تبحر في بحر التفكير علها تجد فكرة لفتح مجال الحديث مع ذلك الصنم الماثل أمامها ولكن حياء الأنثى وطبعها منعها من أن تكون هي المُبادِرة.
وهداها عقلها إلى يكون حديثها معه على هيئة أسئلة فأصبحت تسأله عن أي شيء أمامها وان كانت تعرفه وكان هو يجيب بغير مبالاة أو اكتراث وإجابته في أغلب الأحيان تكون خاطئة وكانت وضحى لا ترد على ذلك الخطأ بالتصحيح مما جعله يعتقد أنها جاهلة وهذا جعله يشعر أكثر بالاشمئزاز منها.
وذات مرة كانوا في متحف اللوفر وسألتهُ ما هذا؟ فرد عليها بضيق ونفاد صبر: لندن
فردت ضاحكة وقالت لندن وسط باريس!
التفت إليها وقد ترآى لها شبح ابتسامة على وجهه العابس ذاك، أما هو فأول مرة يلمح وجهها لتأسره عيناها لبضع لحظات ولكنه سرعان ما حرك رأسه كمن يطرد شبح فكرة أخافته.
مضت أيامهم على هذه الحالة في باريس حتى قارب وقت عودتهما للرياض.
وذات يوم، دخل عليها وهي تجلس أمام المرآة وقد وضعت على شفتها السفلى أحمر شفاه فسألها لِما تفعلي هكذا فأجابته ضاحكة وقالت لأن النساء يفعلن هكذا لأن هذا نوع لا بد من أن... ولكنه لم يدعها تكمل جملتها واقترب منها
وأخذ يضع أحمر الشفاه على شفتها العلوية بغضب ويقول لها النساء يضعنه هكذا ثم ما هذا الذي تضعينه
فأجابت بذهول ولكِنكَ لم تشتر لي غيره.
هنا أحس بتقصيره معها فخرج, ولم يمض وقت طويل، حتى عاد وهو يحمل أغراضا لها وهدايا لأهله وأهلها.
وبعد أن عادا من شهر العسل ذاك كان على وضحى أن تتعرف على أهل فيصل.
ولم يكن فيصلا هو الوحيد الذي ينظر إلى وضحى نظرة دونية ويتجاهل وجودها، بل حتى شقيقاته وفي محاولة من وضحى للحديث معهن وجذب انتباههن قالت لقد كانت رحلة جميلة ولقد شاهدتُ لندن وسط باريس و... ولكن موجة الضحك من أخواته جعلتها لا تستطيع أن تكمل حديثها ونهضت إحداهن لتُنادِي فيصل وتقول له أخبار لندن وسط باريس!
ليلتفت فيصل إليها ويحمر وجهه خجلاً ويأخذ بيدها وينصرفان وعندما وصلى إلى منزلهما انفجر غاضباً
وقال لها: استمعي جيداً لي.
لقد تزوجتك، لأنتقم من منيرة التي فَضَلتْ علي شخص آخر لثرائه رغم إنّا نحب بعضنا وقررنا الزواج بعد عودتي من الدراسة ولن أسمح لكِ بإحراجي مثل اليوم هل تفهمين.
أنا لا أحبك ولا أريدك وأشمئز منك.
ومن اليوم لكِ غرفة ولي غرفة، لذلك انتبهي لتصرفاتك واعلمي علم اليقين أن قلبي لم يسكنه أحد غير منيرة وإني أنتظرُ يوم طلاقها لكي أخطبها وأتزوجها.
وصمت ليلتقط أنفاسه.
لترد بنبرة قوية وغير مكترثة
لتقول له: بشرط
ليرد عليها باستغراب: ما هو؟
لتجيبه: سأكمل دراستي الجامعية ولن تعترض, وسأزور أهلي كل نهاية أسبوع
ليرد مسرعاً أكيد فأنا لن أرضى بأن تكون زوجتي ...
قاطعتْهُ: إذن اتفقنا وانصرفت
وبالفعل مرت سنة وكل واحد منهما قد أوفى لصاحبه بما وعد.
كانت وضحى تهيئ المنزل له وتقوم بخدمته بصمت مما جعل فيصل يعتاد على وجودها.
وأخذ يفتقدها كل نهاية أسبوع, لقد نشأت بينه وبين وضحى نوع من الصحبة ذات مذاق خاص لا يعلم فيصل كيف يصفها.
أما وضحى فقد كانت دراستها وتفوقها هو ما يشغل تفكيرها ولم يكن وجود فيصل في حياتها إلا وسيلة لتحقيق تلك الغاية.
انخراط وضحى بالحياة الجامعية جعل الكثير يحبها ويحترمها و الثناء عليها وصل القاصي والداني.
بل إن نورة وجدت في وضحى كل صفات الفتاة التي يبحث عنها أخوها الدكتور فهد, الذي درس الجراحة وعاد أخيراً ليستقر بالرياض, وأخذت تمتدحها أمامه ليعشقها بالسماع ولقد قيل إن الأذن تعشق قبل العين أحياناً.
حتى أتى ذلك اليوم الذي أقامتْ به نورة مأدُبة لصديقاتها وفي ذلك اليوم رأى فهد وضحى, لقد كانت تلك اللمحة السريعة والنظرة العابرة كفيلة أن تجعل قلبه يحبها ويقرر خطبتها، ولكنه فضل أن يكتم ذلك في نفسه حتى عودة الدراسة.
ولأول مرة يعود فيصل قبل انتهاء الإجازة بوقت كبير وكان ينتظر عودة وضحى فلما تباطأ عودتها ذهب وأحضرها رغم عدم رغبتها متحججاً, بأنه يحتاجها في المنزل عادت وضحى وهي كارهة فالبيت بغير وقت الدراسة لا يطاق.
أما فيصل فلقد كان يجد السعادة بوجودها حاول مراراً أن ينكر ذلك الشعور الذي يسيطر عليه, وما حاله ذاك إلا كحال أصحاب سفينة شُق جوفها فدخلها الماء من كل مكان وأصحابها ما زالوا ينكرون أمر غرقها.
وذات يوم حضرت إحدى شقيقاته لتزف له بشارة طلاق منيرة وإنها تحدثت معها وليس لديها مانع من الزواج به بشرط طلاق وضحى كانت أخته تتحدث بصوت واضح وكأن وضحى لا تعني لها شيئا.
ولكن فيصل طلب منها الصمت وودعها بعد أن أخبرها أن منيرة انتهت بالنسبة له وهو رجل متزوج الآن.
خرجت أخته وقد أخذ منها الاستغراب من حالته تلك مأخذه.
أما هو فقد ذهب إلى وضحى يحاول أن يعتذر منها عن حديث أخته ولكن ردها جعله يشعر كمن ضربته صاعقة من السماء فأردته صريعا ,فلقد أجابته أنها سعيدة من أجله وتسأل الله له التوفيق والسعادة وأنها ستحزم أمتعتها وتذهب إلى أهلها وانصرفت عنه إلى غرفتها.
ولكنه جرى كمن فقد عقله نحو غرفتها وأخذ يقرع بابها وهو يقول لها ولكني لا أريد الطلاق إني... ولكن صوتها قطع عليه استرساله بالحديث بعد أن فتحتْ الباب لتريه قِطعاً من الخشب السميك كُسرت بشكل عشوائي إلى قطع صغيرة وهي تقول له ولكنك منذ أكثر من عام وفي هذا المنزل قطعت أي أمل لي بأن أحبك لقد كسرتني من الداخل كقطع الخشب هذه أتعلم يومها أني من القهر والألم كسرتُ هذا الخشب بيدي دون أن أشعر، اعذرني ولكني اليوم أنا من أقول لك إني لا أريد الحياة معك.
وبالفعل تم طلاق وضحى من فيصل وعادت إلى أهلها وبعد انتهاء عدتها تقدم لها فهد وتزوجها.
وفيصل تزوج من منيرة ولكن زواجهما لم يستمر إلا عدة أشهر لأن فيصل كحال كثير من البشر يتعلق بأمر ما ويسعى لتحقيقه وفي خضم سعيه ذاك يُضيع الكثير من الفرص ولحظات السعادة من حياته.
لقد تأكد فيصل بعد فوات الأوان أن قلبه لم يحب أحدٍ غير وضحى, وذلك رغما عنه عندما قالت له ضاحكة: لندن وسط باريس!
** **
- غالية المطيري