د. عائشة بنت دالش العنزي
بهذا المقول أشرقت الشمس وانحنى الجبل يهنئ السهول.. بهذا المقول ابتدأنا رحلة الكفاح.. والكرامة وارتفع شأو العقول..
نحن البدو الحفاة.. نحن الرعاة.. نحن الصابرون على الضنا..نحن السعاة.. أكفنا بالصبر مخضبات.. طريقنا الشوك وأقدامنا الثبات!
أحبتي، أبتدئ من منطقة رمادية احتضنت أحاديث وروايات صاغت ملامح إنسان لا ينتمي لهذا العصر، إنسانٌ صنعه الافتراض المسبق بقيم ِ خاصة وأعراف تركها الماضي بكل قسوته، ابن الصحراء وسليل الجبل، أورق تحت الطلح.. تشبث بالحياة كما يتشبث برسن بعيره بعد أن ربط به كثيرا من آماله وأثبت بنوته وسمًا يحمل ذكره أينما سارت به بشائر الغيم وهمى على سنامه المطر، إنسانٌ عجز خياله عن رسم بعض واقعنا، وعجزت أخيلتنا أن تحيط بمعاناته وتخترق أسرار تابوته؛ ارتدُّ إلى زمانه ومكانه، لا أحمل بوصلة ولا عدة سفر أو زادا؛ لأن فضاءه لا يقبل ما لا يعرف ولا يسمح للقادمين من عوالم أخرى وأزمان مختلفة اجتياز حدوده، ونشر معاناته مع كل ما حوله، ومن حوله.
أقف في المكان والزمان أتتبع طيف ذلك الإنسان.. وكل ما حولي يدعو لعبد العزيز بن عبد الرحمن! يدعو للحر سليل الكرام، هذا الشجر ومثله الحجر وذاك الجبل، وخلفه التل وما عليه أطل.. كلها بصوت واحد: اللهم ارحم البطل الموحد الوالد! اللهم اجعله في الجنة خالدا! وابعثه مصليا ساجدا!
أمّا تلك القبور التي طوقت طريقي برفاتها وضيقت بحكاياتها قنطرة عبوري، وأطلقت من مرابطي كل خيولي، وأعدت للموت حسن ظبائي، وبعثرت في الفضاء أشلاء ( هجينية) قديمة هي نصيبي من إرث أسلافي، هجينية كنت أقطع الطريق بها، وأستعين – بعد الله- بصداها المؤنس، وأنشر من جرسها ريح الشيح وحنين الخزامى؛ أقول: لن تصل تلك القبور بكل قوتها واكتظاظ الطريق بأشباح سكانها أن تصدني وتنزع طيف امرأة سرتُ به نحو خبائها - والمرأة تشعر بمعاناة المرأة-، وعندما وصلته بدأ وجيب قلبي وسرت أقطع بذاكرتي رمضاء الحروف وأطوي ظلام الوحشة، مستنيرة بسيرة رجل صنع عزتنا وأقام دولتنا.. أستضيء ببريق سيفٍ خلَفه لنا عنوانا وهُوية تشير للرحمة قبل القوة وللحياة قبل الموت، وللأمن قبل الخوف، أغزل لروحي في الأفق طريقا تظلله كلمة التوحيد التي طرز بها علم لا ينكَّس عندما تنكَّس الرايات، علمٌ يدل على توحيدنا وعقيدتنا، وصفاء أرواحنا.. أسكب من خضرته حكاية مكان تتكرر في كل مكان على امتداد صحرائنا وسرابها؛ وقفت بكل ما تكتنزه ذاكرتي وما استقر في ذهني سماعا وقراءة، أرقب المرأة التي خرجت مع الفجر إلى زوجة كبير القوم بعد أن وضعت الحرب أوزارها بين حيين من أحياء العرب؛ أقبلت تمضغ الخوف وألقت التحية بصوت هادئ؛ خوفا من استيقاظ طفلتها -التي حملتها معها -على فاجعة قد لا يحتملها جسدها النحيل المريض، وقلبها الصغير اليتيم الذي أمضى الليل يحتطب القلق والخوف وينتظر الفجر يطل مكتسيا هيئة أخيها الوحيد الباقي إثر ثلاثة مضوا مع والدهم في حروب سابقة، كان الظل والدفء.. كان عيناها التي فقدتهما بالرمد.. كان السند.. كان الحياة بما تعني لها ولوالدتها، كان بأعرافهم عمود البيت، ورواقه الساتر.. به تعلق الأمل في بقاء سلالتهم، بعد أن أصبح كل شيء حول خبائهما يبشّر بليلة عرسه، يبشر بصغار يعيدون إلى المكان ما افتقده من بهجة بعد أن خيّم الوجع عليه، يعيدون لامرأة في خريف العمر اطمئنانا هاجر من روحها وتبع نعيق الغربان يوم ابتدأت رحلتها مع الحزن والفقد والخوف على صغيرة فقدت بصرها واعتمدت على السمع والأخ. هذه هي الحال قبل خروجها حاملةً سؤال وجودها الماثل في حياة وحيدها أو موته، كانت تعلم مسبقا أن هناك شرا أحاط به؛ حيث عاد معظم المحاربين، لكن غاية أملها أن يقال جريحٌ أو أسير، فتعود به تداويه أو تحملها خطاها تستجير وتستغيث! لم يُكتب ما أرادت، فماء عينيها نضب والقضء حل قبل شهر رجب!
هذه وأمثالها كانوا الضحايا لقسوة الصحراء ولأنظمة مختلفة متفرقة، وبطش القوي، وحكم الجهل والعصبية، وفلسفة الوجود الماثل في: بقاء الأقوى من البشر والوحوش.
هذه وأمثالها في المعاناة يرسمهم خيالي كلما تذكرت كيف كانت الحياة قبل الملك عبد العزيز- رحمه الله-، خيالٌ يستمد من واقع الماضي شخوصه وأحداثه.
ويبقى هذا ماضيا قبل أن تُبشّر الأرض بغيث النماء وقدوم الخير والسعد باعتزاء البطل بنوره، وانقضاض الصقر على الجهل والشتات والفقر! يبقى ماضيا، لكنه يجب أن يبقى ماثلا؛ لنحمد الله ونشكره على ما وصلنا إليه من نعيم، لم يحلم به أسلافنا.. ولم تتوقعه أذهانهم.
حان أن ألجم جموح حروفي وأوقف سيل الحكايات المسرودة برائحة الموت ولون الدم، ونحيب الأرواح البريئة، حان أن أقول: اللهم ارحم الملك الموحد، فقد نشر بفضل الله الرخاء والمحبة والعدل والإخاء في هذا البلد المعطاء.. وارحم أبناءه الذين ساروا على خطاه وأكملوا مسيرة الخير! اللهم احفظ خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين وكن لهم الناصر والمعين.. اللهم أرضهم وارض عنهم!
وانتهي يا أحبة بـ: كان ياما كان.
** **
- أكاديمية بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن