هل يمكن لنا اعتبار الكتابة بجميع طقوسها وحالاتها إلهاماً يفيض ليصل درجة الوحي؟ أم هي مجرد خواطر وتأملات تطرأ على الذهن وتموج بها الذاكرة فتبحث عن شطآنها الورقية؟ أم أنها شعور القلب وفائض الروح الذي ظل ساكناً لبرهة من الوقت حتى آن خروجه؟ في اعتقادي أن الكتابة مزيجٌ من هذا وذاك. ولكنها في ظني للوحي والإلهام أقرب. وحالة الكتابة لا يمكن تبريرها أو البحث عن أسبابها. فقط لأن الروح تريد ذلك فما على القلم سوى أن يستجيب ويبادر بالتنفيذ. والمشاعر برمتها كتلة ضخمة تزداد ضجيجاً وأنيناً. تبحث عمّن يستمع لها ويجعلها في بؤرة الاهتمام. الكتابة بجميع حالاتها أمشاج مضطربة بين الفكرة والخاطرة والبوح. حتى وهي تنغمس في بحر المعاناة وتغرق في مستنقع الألم. فهي على الجانب الآخر مدعاة للتنفيس والفرح. وحي الكتابة يموج بمختلف المواعيد وهو في رهان دائم مع الوقت. فلا اعتبار للزمان والمكان حين يحين موعد الكتابة. لأنها باختصار بوح يجتاز حدود الروح ويقفز فوق متاريس الانتظار. وليس من شروط الكتابة أن تتلبسها المعاناة ومسحة من الحزن وفائض من الألم. بيد أن عجلتها تدور رحاها حين تستيقظ المشاعر من رقدتها. عندها فقط تنطلق رحلة إبحار طويلة تتجاوز في عنفوانها ارتفاع الأمواج وفي بعدها مسافة الشواطئ. لِوحي الكتابة تداعيات تستعصي على الفهم. فهي ملاذ البوح ومظنة الراحة. حتى وهي تتعثر في خطواتها وتتلعثم في حروفها. ومن العجز أن نحاول فك طلاسمها ورموزها. فركيزتها الأساسية محفورة داخل الأعماق. وبراكينها الخامدة تخفي موعد فورانها. حتى إذا ما حانت ساعتها انطلقت من عقالها كفرسٍ أصيل ترنو للكسب بأي ثمن كان. ولذا لا يصح في جانب الكتابة أن نتساءل عن ماهيتها ولا عن دوافعها ولا حتى في معنى أن نكتب. فقط نحن نكتب لأننا نريد ذلك. دون مزيد من التفاصيل. وحيثما وجد الإلهام والخيال الخصب وجدت الكتابة واشرأب عنقها. قد تنزوي الحروف بعيدًا في الظل وترفض البوح. ولكنها في الأخير لا تمتلك القدرة على الهروب بالكلية. وعند ذلك يطيب لها الرقص الفاتن في حفلة رائعة تتوج بالتصالح مع الذات. وحي الكتابة المنهمر قد يتطلب تغيير القلم عدة مرات. وتغيير المكان واحتساء كوب من القهوة أو الشاي. فهو في صراع مرير مع عدوها اللدود الوقت. وقد تغتاله قبضة التوقف. ولكنه مع ذلك يأتي هادراً وقوياً. في درب الكتابة ثمة محطات للراحة والتزود بالشحن المعنوي. وثمة تاؤلات تعرض للفكر والقلم. وهي بكل حال لا تعدوا أن تكون رموز دلالية تستوضح الطريق ليظل وحي الكتابة في قمة عنفوانه وتدفقه. ومع تلك الأجواء الحالمة لا أخال إلا حفلة راقصة تلوح في الأفق. لتعلن مولد بوح جديد. وحي الكتابة مبهر في حضور وزاهٍ في شكله متبختر في مشيته. فالكتابة بجميع حالاتها نبض الوجدان وبوح الداخل وصنوان الروح. تظل في غالب تفاصيلها عصية على من يريد الإحاطة بكنهها أو حتى الاقتراب من عالمها اللذيذ والممتع. ومن هنا كان لها وحيها الخاص الذي لا يليق إلا بها.
** **
- هذلول الهذلول