أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
اطلّ عقد السبعينيات الميلادية «التسعينيات الهجرية» من القرن العشرين على الرياض، وكانت في ذلك الوقت مدينة تسعى إلى التطوّر وشقّ طريقها نحو التقدّم والحضارة.
وكان صاحبكم في تلك الفترة فتىً قد أنهى دراسته الابتدائية، مُتطلّعاً لبداية مرحلة تعليمية جديدة، وكان للتوّ ينضو عنه لباس الطفولة ويشرع في ارتداء لباس المراهقة والفتوّة والأحلام.
كان منذ صغره مُختلفاً عن أترابه في اهتماماته وهواياته، إذ كان يقضي الساعات الطوال يقرأ ما يقع تحت يده من قصص «ميكي» و»سمير» المصريتين و»سعد» الكويتية ومجلدّات «سوبرمان» المترجمة.
وفي المرحلة الدراسية الجديدة أدرك الفرق بين مناهجها ومناهج الابتدائية، فالمطالعة والأناشيد أصبحت نصوصاً أدبية، والحساب والهندسة تطوّرت إلى رياضيات حديثة. وحتى قراءته الحرّة ارتقى مستواها من القصص إلى المجلّات الثقافية «كالعربي» الكويتية و»المنهل» و»الفيصل» و»العربية» السعوديات و»المختار» المُترجمة.
وربّما كان تعلّقه بالقراءة والاطّلاع مدفوعاً بقراءة كُتبٍ كان والده يرحمه الله يصطحبها معه في نُزهات العائلة البريّة، فيترك مُهمّة القراءة الجهريّة على مسامع الجميع للأبناء، ليكتسبوا من الثقافة والعِلم ومهارات اللّغة والقراءة الصحيحة ما يكتسبون. فكان أن قرأ صاحبكم في تلك المرحلة المُبكّرة من العُمر كُتباً من أُمّهات الكُتب مثل «الكامل في التاريخ» لابن الأثير، و»العقد الفريد» لابن عبدربّه، و»الأغاني» للأصفهاني، و»البُخلاء» للجاحظ، و»المجاز بين اليمامة والحجاز» و»راشد الخلاوي» وهُما للشيخ عبدالله بن خميس يرحمه الله.
أما الصحف اليومية، فحدّث عن اهتمامه ومتابعته الدائمة لها ولا حرَج، إذ أصبحت في ذلك الوقت زاده اليومي من القراءة، لما تحمله من صنوف الثقافة والأدب، فقد كان يكتب فيها أساتذة بلغوا من العِلم والفِكر والخبرة الصحفية حدوداً جعلت صفحاتها تحفل بما لذّ وطاب من أشهى الموائد الثقافية والصحفية المتنوّعة.
ولو أردنا استعراض نماذج من مقالات الكُتاب الصحفية في تلك الفترة لما اتّسع لها المجال، ولضاقت عنها مساحة هذا المقال، ولكن ربما كان من المناسب إيراد بعض الأمثلة من أبرز أولئك الكُتّاب.
فالشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، الكاتب الأديب الموسوعي، كان يكتب زاوية في صحيفة الرياض بعنوان «خليكو شاهدين»، يتناول فيها شؤوناً متنوّعة من الثقافة والفنون والآداب. وفيما يلي نورد مقتطفات من بعض مقالاته في تلك الفترة، والتي ضمّها كتابه «هكذا علّمني وردزورث»:
- «يقول بودلير: تطير الفراشة المفتونة نحو الجَمال، كما تطير نحو الشمعة، فتحترق قائلةً: بارك الله في اللّهب».
- «العقل والوازع كبير بحمد الله والقلب طفلٌ ولله الحمد أكثر، فمن يحمل ذاك العقل وهذا القلب فهو طفلٌ كبير، وأحسب أن الطفل الكبير هو من سلمتْ براجمه من الأوخاز».
- «أدركتُ أشياخاً في مسجد الحسيني بشقراء، يتضجّرون في المسجد آخر ليلة من رمضان، ويستحثّون الإمام على التراويح أو القيام، إشفاقاً من مفاجأة الخَبر برؤية هلال شوّال، فإن فوجئوا بالخَبر خرجوا تتخاطّ أرجُلهم، لهُم بُكاء وخنين، كأنّما رُزئوا مُصاباً».
أما الأستاذ عبدالرحمن السماري، فقد كان يكتب في صحيفة الجزيرة زاوية «مستعجل»، وهي زاوية اجتماعية تهتمّ ببحث أوجه القصور في الخدمات، أو المقترحات التي يُمكن تقديمها، للمساهمة في تحسين أداء بعض الأجهزة الحكومية والمؤسّسات العامّة، التي تمسّ حياة ومصالح المواطنين، في مختلف مُدن وقُرى وهِجر منطقة الرياض.
يقول الأستاذ السماري في زاوية «مُستعجل»:
- «كنتُ في السابق أعتمد على رسائل تأتيني من هذه المدينة أو القرية أو تلك، وأكتفي بوجود اسم صريح واضح وعنوان المُرسِل، لأنقل ملاحظته أو مطلبه أو شكواه. ولكن لوجود بعض الاحراجات، نتيجة عدم الدقّة في هذه الرسائل، وربّما تحامُل بعضها، قرّرتُ أن أذهب بنفسي إلى تلك المدينة أو القرية، وأقفُ على الحقيقة عن قُرب».
وفي انتقاد بعض الشخصيات السلبية في المجتمع، يقول:
- «بعض البشَر كتلة من العجَلة، والعوام يُسمّون مثل هذا الشخص مطفوق، والمثقّفون يُسمّونه بالإنسان القلِق، فهو قلِقٌ دائماً، ويبدو لي أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين العجَلة والحماقة، فالإنسان العَجِل تكثُر لجاجته وخصوماته مع عباد الله. ومع الأسف فمثل هؤلاء موجودين بيننا، ولكن هل على جبهة الأحمق أو الأقشر وسمٌ حتى يعرفه الناس ؟».
وعن بعض الصفات السلبية للبعض، كتب قائلاً:
- «من حقّ الزوجة أن يكون لها احترام داخل المنزل، ولكن بعض الأزواج يُعامل زوجته كأنها خادمة له؛ تطبخ وتكنس وتنظّف، وتراعي شعوره وأحاسيسه فقط، وليس من حقّها أن تتحدّث أو تسأل أو تُناقش أو تُبدي وجهة نظرها.
تجد مثل هذه المسكينة تنتفض خوفاً من هذا الإنسان.. الأسد داخل المنزل فقط، أما في الاستراحات والكشتات، فهو طبّاخ ماهر، وصبّاب آخر كشخة».
أما الأستاذ عثمان العمير، فقد كان يُعدّ صفحة أسبوعية في صحيفة الجزيرة بعنوان «أيّام لا تنتهي»، نقتبس فيما يلي بعضاً من كتاباته فيها:
- «المهاجرون بالوراثة رجال سُعداء.
كم يجد القارئ للتاريخ حواسّه مشدودة إلى نلك الأقدام والسواعد التي اختارت الهجرة ممارسة عالية جِدّاً، لا يُمكن الاستعاضة عنها بشيء آخر.
جَدّي وجَدّك، كُلّهم وضعوا حقائبهم الصغيرة على أكتافهم ومضوا يهيمون بهدفٍ ولا هدف.
من الهضاب الأوسطية انطلقت الجموع، وفضّلت الصحراء على عقود الرمّان والبرتقال والمياه الدافقة.
ومن الصحراء تركتْ الأيدي المعروقة الخيمة والمراعي لتقذف أجسادها في أعماق البحار والمراعي الخضراء، وكانت هجرة متبادلة، ولتكن إلى الأبد».
وكتب في مقال آخر:
- «سأحلُم وأحلُم».
بمنتهى السذاجة أحلُم أحياناً. فأنا أجنح بأحلامي إلى مسافات بعيدة جدّاً لا أكاد أدركها، لكنني لا أتجرّد من الاعتراف أن ما أفعله يُمثّل نوعاً من النزوة اللاواعية، التي تقتحم ذواتنا في لحظات الاستراحة العملية.
فأحلم أحياناً أنني أتناول غذاءً في مطعم صينيّ بهونج كونج، وأستلقي على شاطئ نيس، ومن ثم أُحيي حفلة تنكريّة في جُزر هاواي. أتصوّر نفسي في سيّارة لاندروفر، وبندقية صيد في يدي اليُمنى، وناظور أسوَد على كتفي، وأدخل غابات كينيا، لألاحق الظبي وأصطاد الطيور، وألعب قليلاً مع القرَدة وأضحك مع الشمبانزي.
وعندما أعود إلى واقعي، وأن ما ذكرته لم يكُن إلا أحلام يقظة، كما يقول عنها العلماء، أشعر بالسعادة، لأن هذا كان مُجرّد رحلة قصيرة لا تخلو من الانبساط، ويكفي أن غيري لا يفعلها كثيراً».
وختاماً، حفظ الله الشيخ ابن عقيل والأساتذة السماري والعمير، ومتّعهم بطول العُمر وحُسن العمل.