د. شاهر النهاري
في بيوت البشر كما في حفر ومستعمرات النمل تنتشر الأشياء الحميمة، التي يهتم بها أصحابها، يجمعونها، يرتبونها يلمعونها ويضعونها في أفضل الصالات والبراويز، والدواليب، والزوايا، ويعرضونها على الواجهات الزجاجية، وربما يكتبون حولها معلومات وتواريخ تحكي عن مناسباتها وقيمتها، ومكانتها العزيزة لديهم.
مقتنيات بشرية قليلها ثمين وكثيرها رخيص، وهي تعد أجزاء ممتدة من كينونة أصحابها، تاريخهم، هواياتهم، مسارهم الحياتي والعملي، ومما قد لا يفهمه الآخرون، وقد ينتقدون وضعها في مكانة أكبر وأعظم مما تستحق حسب تقديرهم.
لا عجب، والمثال على ذلك نحن الإعلاميين والأدباء، ومن نستهوي وننهج سيرة النمل الحريص، فنجمع فخرا كل ما نراه عزيزا على أنفسنا، وكل ما يذكرنا بمسارنا الثقافي، مئات الكتب المهداة من أصحابها، شهادات حضور مؤتمرات ودورات ومبادرات، خطابات شكر ودروع وميداليات نحفظها في البراويز، هدايا تتباين أشكالها وألوانها ومواد تصنيعها نظل نلمعها ونضخم مكانتها، ومهما نقصت قيمتها الواقعية أو تناقصت مع مرور الزمن تظل أيقونات ترتقي في مشاعرنا وأعيننا.
أجزاء وزوايا من بيوتنا تشبه في بعض معانيها خلايا النمل، المكدسة، فمكتبة هنا، وخزنة هناك، ورفوف تئن بحمول الأشياء، وكراتين الألبومات تحتوي الهدايا والصور والدروع، والتي لا يمكن أن يستفيد منها غيرنا، فهي ممهورة بالاسم والغرض والمناسبة، وحتى لو عرضناها للبيع فلا أحد يرغب فيها، إلا لو تداخلت المشاعر وحك الشاري جدرانها، وقشع التاريخ، وبدل أسماءها، وأعاد كتابتها بادعاء مالك جديد، يتمادى عشمه، وقد يأتيه الوقت والسؤال المنتقد، فيخجل.
ديمومة الوجود لتلك المقتنيات تستمر بعمر النملة الذاتي، حتى ولو ضاقت الجحور، وتغيرت موديلات الأثاث من حولها، وجدد الترميم، أو انتقلت كامل الحفرة لجرف منزو أو روضة خضراء أو واد سحيق آخر، والمالك يظل متمسكا بجزئياتها، وكيف لا وهو يجد فيها بعض من الأنا، وأنفاس لحظات من عمره، وتميزه، وذكرياته السعيدة.
ويظل المقتني، بمشاعره، وقصصه، واستعراضه، وعوامل التسويف، وببكرات حبال الصبر، يتمنى أن يجد من يفتح عيناه دهشة، ومن يطلب منه أخذ صورة معها، أو الاستزادة من التفاصيل، فيجد أريحيته وراحته وسعادته تتسابق نشوة على لسانه لمسح الغبار عن كل قطعة منها، والشرح المسهب، وتأكيد حصول الأهمية.
أما من يتعثر ببعضها، دون أن يسأل، أو من يهز رأسه عجبا من دأب وسخافة حياة النمل، فهذا إنسان يثير الغضب، ويثبت مجافاته للتميز والثقافة، وبأنه نرجسي يعتقد أنها تجميعات تحصيل حاصل، وهي لا تهون إلا على عين من لم يجمعها بحرصه الشديد، ولم يفخر بتكدسها.
العمر يمضي، والبعض قد يصطدم بالواقع، وتصيبه حالة وعي ورفض لما تراكم في الأمكنة حوله لدرجة الضيق، وقد يقدم على حرق بعض أوراق أولاده أو تحطيم سيقان بعض بناته، وربما يقوم بتوزيع بعض نفائسها على الأصحاب، أو على البراعم الواعدين في مجالات الثقافة، وقد يقوم بوأد بعضها، بعين تدمع، وهو ينفض بقية التراب عن ذقنه.
البعض المكابر تمتلكه غريزة التملك، ويغازله الخوف من طيف الموت، فيحضر أحد أبنائه، أو طلبته، ويستوصيه بها خيرا، وسط دراما الموقف، ويطلب منه المحافظة عليها لو حدث ورحل عن حفرته، وأن يدفع عليها من أمواله، لكي تظل متحفا يحكي عن تاريخه، الذي قد يسقط من رفوف ذاكرة غيره، ولو كان من أقرب المقربين.
حالات نفسية حلزونية، وفلسفة تجميع وحفر وقشاش، قد يكون لها عظيم الأثر في نفس المالك، وقد تتعاظم الأهمية بعد رحيله، لو شعر الموصى له بأنه يحمل فوق عنقه أمانة التكدس المجهول، وحتى لو ضاقت عليه الزوايا، بورطة من اشترى له من ضميره علة.
ما يدرك الجامع للأثر أو لا يدركه أن الرحيل مقدر له، في يوم قد يكون قريبا، وأن أهل البيت بعد حزن فراق لا يلبثوا أن ينظروا للأمر بمنطق وعقلانية، وحتى لو جاملوا مؤقتا بمشاعر التعاطف، والمحبة، ولكن الحي أبقى من الميت، والراحل لا يستطيع احتلال حياة وتطلعات وحركة وحرية الأجيال القادمة من صغار بيض النمل، وربما أن أحد المهيمنين الجدد، لن يلبث أن يفرض رؤيته الناقدة الضجرة، ويغير المفاهيم، ويضطر بكل أسف ومشاعر حسرة للقيام بإعادة ترتيب وتنظيف جحور خلية النمل، وربما يبحث عن بائع روبابيكيا، أو من يطلق عليهم اليوم تجار الأشياء المستعملة، عله أن يقدر قيمة القشاش، وينصب له حراجا مشهودا.
الكتب، سينظر لها بائع المستخدم، وهو يهز رأسه، بأنها كتب ليس عليها نشاط، وأنها مجرد حمل ثقيل على حمار مكتبته، وربما يتهرب، حتى يحصل عليها برخص التراب.
بقية المنقولات، سيكون من الصعب حضور البائع ليطلع عليها، وربما يطلب من بيت النمل ثمن نقلها، والتخلص منها!
الراحل لن يرضى أن يتم إهانة تاريخه، ومساره الثقافي بهذا الشكل المفرط في التهاون، ولكنه يسكن في مدارات وحجب بعيدة عن دبيب خطوات النمل، ولا يمكنه العودة والتغيير، ولا زمجرة الغضب، ولا تقديم النصح الفاعل.
الميت يندثر بالغياب، والحياة تستمر بالأحياء، لفترات أنفاسهم ونشاطهم، وتجميعهم، ثم لن يلبثوا أن ينطووا عرايا، كما انطوت قبلهم أمم وشعوب.
لا تندم يا جامع مقتنيات النمل، فأنت لم تجمع أحد الأهرامات، ولا برج بيزا، ولا مدرجات معبد بعلبك، ولا بيوت العلا، ولا ما يمكن أن تستمر مكانته دهورا وأبدية، ولا أمل في أن يصبح جحرك مزارا دهشة للسياح يتمنون لو عاشوا أيامه.
النمل يجمع الكثير، ويبدع في التخزين، وبعير الدهر يسير دون تركيز، وقد تقع خطوته على الخلية النملية بكاملها، فيخفس بخفه ما تم جمعه فيها سنوات طوال، ولا يعود في الخشاش ما يمكن أن يباع حتى لو ترجينا ذائقة تجار الروبابيكيا.