كنتُ أعتقدُ أنّ الطعنَ في خاصرةِ الماضي بمعولِ الحداثةِ قد توقفَ وانتهى جملةً وتفصيلًا في ظلِ عودةِ الكثيرِ من أربابِ الحداثةِ -لا التحديث- العربيةِ عن تلك القناعاتِ التي آمنوا بها سلفًا، وهم يجترّون ما رعوه من مراع خصوصيةِ التجديدِ الفكريِّ والتي جاءَ بها رعاةُ الفكرِ الحداثيِّ في ثمانينياتِ القرن الماضي، وما واكبَ تلك الفترةَ ومواقفَها من رداتِ فعلٍ فطريةٍ لم تعتمدْ على عدمِ مقدرتِها على مجابهةِ المضادِ بل خرجتْ من رحمِ أصالةِ التراثِ وجديةِ وتجددِ محتواه عبر العصورِ - لا توقفِه وانقطاعِه وأتباعه عن مسايرة مستجداتِ العصر - ليصادقَ الزمنُ الجميلُ على أحقيةِ ما كتبته المواقفُ المضادةُ المصورةُ من قبل الأستاذ صالح الديواني في مقاله المنشور بمجلة اليمامةفي العدد الصادر بتاريخ 20/ 7/ 1445والمعنون بـ(( بالحداثة وعداء المثقف الرعوي )) بالثقافة الرعوية ووصلَ بها –والحديث عن المواقف المضادة ) الأمرُ إلى اعترافِ من انتصرَ لهم الديواني من رعاةِ الحداثةِ الفكريةِ على وجهِ الخصوصِ لا المعيشيةِ المتجددةِ بفعلِ تطورِ الحياةِ بسلامةِ المضادِ لهم وزللِ ما كانوا عليه من محاولاتٍ سعتْ عبرَ البنيويةِ والتفكيكيةِ إلى إخراجِ التراثِ الفكريِ لنا من سمةِ التجددِ ومقدرتِه على العطاءِ وإيجادِ المراعي الخصبةِ لمن كانَ له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد.
وهذا لعمري نوعٌ من العقوقِ غيرِ مبررٍ للثقافةِ الرعويةِ كما أسماها الديواني في مقالِهِ والتي زرعتْ به وبغيرِه من أنصارِه القلائلِ أبجدياتِ الإبداعِ وبديهاتِ الثقافةِ وآلياتِ المثاقفةِ وحملتْ السابقين في الثمانينيات على السيرِ ببصيرةٍ إلى الآخر غيرِ رعوي بحسبِ تصنيفِهِ والمتكئِ في واقعِ أمرِهِ على الكثيرِ الكثيرِ من مناهجِ ثقافةِ الرعي الخصبةِ الناطقةِ بها كتبُ التراثِ الخالدةِ والباقيةُ كمنجزٍ معرفيٍّ يتلاءمُ وواقعَ أي عصرٍ يعيشُ به أو يشاركُ في بنائه معرفيًا دونَ تكرارٍ منسوخٍ كما زعمَ الديواني في مغالطة كبرى كانَ للناطقِ بها جهلُه بالبونِ الشاسعِ بين دلالةِ الحداثةِ وحرفيةِ التحديثِ في أي ثقافةٍ كانت وفي أي مسارٍ سارت به بدءًا من الهويةِ وتشكلاتِها وإشكالياتِها مرورًا بالتصورِ والرؤيةِ لها ولواقعِها وغيرِهِ نهايةً بالمنجزِ المعرفيِّ الثقافيِّ للراعي بها . ولستُ أعلمُ وربي طبيعةَ ومصداقيةَ برهانٍ تجنى من خلالِهِ الأستاذ صالح الديواني ليقرَ بأنّ التراثَ والوراثَ من جيلِ الثمانينيات رفضا عملياتِ التجديدِ برمتِها وانغلقَ كلاهما على الآخرِ لعجزهما عن مجابهةِ ومواجهةِ تياراتِ الحداثةِ بشتى صورِها والاكتفاءُ بكتبِ ابن المقفع ومقاماتِ الهمذاني أنموذجًا، وفي هذا لغطٌ كبيرٌ وطعنٌ لن ينفذَ إلى سلفيةِ البخلاءِ وفقهِ اللغةِ ولزومِ ما لا يلزمُ وما شابهها من مراعٍ خصيبةٍ، فالثقافةُ الرعويةُ ومثقفُها الرعوي لا ينفكّانِ عن الماضي أصالةً ولا ينقطعانِ عن الحاضرِ تعايشًا وإسهامًا وهما أبعدُ ما يكونُون عن الاستنساخِ المعيبِ للفكرِ المنجزِ عبر الوسائلِ التقنيةِ الحديثةِ بعيدًا عن الإمساكِ بالعصا من المنتصفِ لأنهما ليسا بحاجةٍ لها أو السيرِ وفقَ سياستِها الهشةِ فهما ببساطةٍ عفويةٍ وحداثةٍ تنوريةٍ تقفانِ على أرضٍ صلبةٍ ومرعى خصيبٍ وشتان بين من يرعى في خصبٍ ونافعٍ وبين راعٍ هلكَ جوعًا لرعيه فيما لا يسمنُ ولا يغني من جوع.
** **
- عبدالرحمن سابي