الكاتب السعودي/ حامد الشريف كاتب دؤوب، الكتابةُ عالمُه الذي يتنفسُه، كما أن قراءة الأدب والكتابة عنه هي شغله الشاغل.
حدثني من عامين، وهو في زيارة لي في دمياط عن مشروعه الكتابي الجديد، وأنه سيكون عن مصر؛ والقاهرة تحديدا، وحكى لي بعضا من حكاياته التي استوقفته وجعلته يفكر في هذا المشروع الكتابي، كان يحدثني عنه وهو مغتبط سعيد؛ ومندهش أيضا من هذا الشعب وتلك الحياة المفعمة بالنشاط والحيوية، وحين أهدى إليَّ مجموعته القصصية «هنا القاهرة»، وقال لي: أنتظر رأيك فيها، وفي نفس الأسبوع الذي جاءتني فيه انتهيت من قراءتها؛ فقد كنت شغوفة لقراءة ما كتبه حامد الشريف عن القاهرة العريقة.
بدأت القراءة فأعجبني أولا الغلاف المرسوم بيد فنان، بيوت وعمارات متلاصقة، أعلاها واضح الألوان ومعظمها ضبابي كأنها صورةٌ تُرى من خلف نافذة طائرة أو سيارة تجري سريعا.
أعجبني الإهداء الذي قال فيه: «إلى الشعب الذي أحبنا فأحببناه، وحمل مشعل العلم والثقافة والأدب فحملناه، وأضاء لنا دروب الكتابة الإبداعية فطرقناه، ورسم لنا منهجية القراءة الواعية الصافية فنهجناه، وكان حاضنا لكل المبدعين على مر العصور فأتيناه ……» وهكذا يبدأ حامد الشريف مجموعته القصصية بإهداء جميل فيه محبة وعرفان لمصر ولشعبها، بلغة شاعرية آسرة.
صدرت المجموعة القصصية هنا القاهرة عن دار نشر منشورات جدل، عام في 139 تحتوي المجموعة على ثماني عشرة قصة قصيرة، ويقول الكاتب إنها باكورة إنتاجه القصصي، فقد كانت الروايةُ هي أعمالَه التي عرف بها، بدأ المجموعة بقصة «هنا القاهرة»، فهي قصة العنوان، حيث بطل القصة يتوجس من سائق أوتوبيس؛ ملامحه وتصرفاته غير المريحة، كان يتوقع من السائق ارتكاب أي جريمة، بطل القصة _الذي لم يسمه الكاتب _ ليس مصريا لكنه لم يحدد هويته، ويستعمل وسيلة النقل العام، ويرى معاناة المصريين في انتظار الحافلة، فقد أشفق على امرأة عجوز صعدت الحافلة بصعوبة، واتخذت مكانها فيها بعد أن أفسح لها السائق المقعد الذي بجواره, ظل طوال الطريق يراقب تصرفات السائق، وزاد من قلقه قَسَمُ السائق إنه سيقطع رجل أي أحد يطأ الحافلة دون إذنه، واعتبر بطل القصة أن السائق جادُّ في تهديده، مع كوننا نحن نسمع هذا الكلام كثيرا ولا نأخذه مأخذ الجد، فمن المعروف لدينا أن السائقين بهم عصبية شديدة وكما نقول نحن المصريون: « بيتخانقوا مع دبان وشهم» فأخذ يتلقى كل تصرفات السائق ويفسرها على أنها نوع من التخطيط لجريمة، حتى تفاجأ برقة السائق وهو يبتسم لطفل تحمله أمه، لكنه لم يصدق هذه الرقة واستمر كما يقول هو « بأنه لربما يريد التغطية على جريمته الأساسية، ورأى في حملها معه ما يوفر له الهروب بفعلته!» وظل على تلك الحالة حتى رأى حنو السائق على المرأة العجوز ونزوله معها ليوصلها بنفسه لباب العمارة التي تسكنها، ثم كان الموقف الأرقى، حينما أخبر البطل السائقَ أن نقوده في الشقة التي يسكنها وطلب منه أن ينتظره حتى يأتي بها ويعطيه أجره ، فأنزله السائق ولما عاد بالنقود وجد الحافلة قد انطلقت تطوي الأرض وتركت له هذه الاستفهامات التي لم يجد لها جوابا، وهنا تذكر عبارة المذيع المصري الشهير (أحمد سالم) هنا القاهرة ، إبان انطلاق الإذاعة المصرية.
فمصر بلد يعج بالمفارقات والمدهشات والمضحكات المبكيات، بلد تمور به الحياة مورا، كثير من قصص المجموعة تدور في وسائل المواصلات، وهذا طبيعي فالزائر لمصر وسيلته للتجول فيها هي المواصلات عامة أو خاصة، ومنها يرى ويسمع ويلاحظ ويفسر ما يراه من مواقف، قد تخبره عن ماهية هذا الشعب وكثير منها لا يخبر ولا يبوح، فالحقيقة لا تعلن عن نفسها هكذا من السطح ولكن تحتاج لسبر أغوارها وإبحار عميق داخل الشخصية المصرية .
من القصص التي كان المكان فيها وسائل المواصلات قصة ( هنا القاهرة، مقطع تافه، ما بيخافوش ربنا، غصة في الحلق، يسهل قيادتهم، لعبة الكراسي، زوج الست، النهاية) أي أنها جاءت بنسبة من قصص المجموعة.
من القصص التي أعجبتني قصة (العقل نقمة) ص72, تبدأ القصة بحوار بين بطل القصة وامرأة تبدو لمن لا يعرفها أنها سطحية لا تحمل فكرا ولا علما، وذلك لضحكها وثرثرتها والضجة التي تحدثها بالمكان, ثم يكتشف البطل أنها تحمل دكتوراه في تخصص دقيق في الطب، لكنها تهرب بهذا الأسلوب من هم كبير تحمله، من ولد معاق عاشت له بعد انفصالها عن والده؛ كي تحميه من المجتمع وتجعله يستطيع التعايش معه، وهذا يؤكد قولي أن الحقيقة لا تمنحها المظاهر ولكن تحتاج معرفتها إلى صبر وبحث وعين راصدة، وهذا دائما ما كان يبحث عنه حامد الشريف في هنا القاهرة، يأخذنا دائما بُرآء في سطوره الأولى, يشعرنا أن الحكاية سهلة حتى يضعنا في نهايتها مع أسئلة لا إجابات لها، أسئلة تجعلك تفكر معه أو تختلف معها, كما في قصة العقل نقمة.
وفي قصة (يسهل قيادتهم) ص ، يختمها بعدة أسئلة فيقول: «لا أعلم لِمَ عدت وقتها بظهري للوراء، وابتعدت عنهما، ولم أهتم بما قال العجوز، وكيف واستها في مصيبتها، ولا أعلم لِمَ لَمْ أستطع منع نفسي من التبسم، وكدت أستغرق في الضحك رغم أن الموقف كان محزنا»، وهنا في تلك القصة تناول فيها الكاتب مرض التوحد، كما تناول في قصة العقل نقمة مرض (متلازمة داندي ووكر) المصحوب بالاستسقاء الدماغي، وهذا ما يعطي للمجموعة بعدا إنسانيا مهما، فالكاتب تظهر بين سطوره ومن خلال حروفه نزعتُه الإنسانيةُ الواضحة، كما أنه يشرك قارئه في هذا الهم الإنساني العام.
كما نجده في قصة «سر السعادة» ص , يتساءل في نهاية سطورها فيقول: « كل ما شعرت به وقتها، هو أنني بحاجة لمقابلة صديقي كي أخبره بأنني لم أجد السعادة التي أخبرني عنها، وأسأله إن كان يستطيع وصفها!»
وكما نعلم أنه حتى الآن لم نستطع وصف السعادة ولا الوقوف على سرها، فهي نسبية جدا، وعزيزة جدا’ قد تكون السعادة قد حدثت لتلك الطفلة المصابة بالتوحد التي وقفت وسط الحافلة تغني رغما عن محاولات أمها منعها, لتغني « الحلوة دي قامت تعجن في البدرية, والديك بيدن كوكو في الفجرية, يللا بنا على باب الله, يا اسطى عطية», وكما ترون اختيار حامد لهذا المقطع بالتحديد الذي يعيدنا إلى تذكر فنان الشعب سيد درويش, الذي نقل الموسيقى العربية نقلة كبيرة, وكان صوت العمال والفلاحين والموظفين وسائر فئات الشعب المصري.
استوقفتني أيضا قصة «جوز الست» ص ، وحاوَرْتُه بشأنها في الهاتف، قلت له: المرأة المصرية لو عرفتها حقيقة لعرفت أنها تستحق أن يصنع لها تمثالا، وليست هي تلك المرأة التي جسَّدتَها في قصتك جوز الست، التي تسحب زوجها خلفها, يحمل عنها كل شيء بدءًا من الطفل ومتعلقاته ومتعلقاتها ويتبعها حيثما تحل ؛ بينما هي تحمل هاتفها وتجلس دون حتى أن تستشيره في المنضدة التي تجلس عليها في المطعم، وكأن اختيار المنضدة يحتاج لاستشارة! ثم تتركه يرضع الطفل بالببرونة وتحكي هي في الهاتف دون أن تعيره أي اهتمام، هذه المرأة يا أستاذ حامد لا تمثلنا، وإن كانت المرأة عندنا خرجت لطلب العلم ونافست في ميدان العمل منذ الثلاثينيات والأربعينيات إلا أن الرجل عندنا ما زالت صلته «بسي السيد» وثيقة وما زالت دماء الست أمينة تجري فينا نحن النساء وإن كانت بطريقة عصرية، فهذه ثقافة والثقافة كما تعلم تراكمية ولا تُمحى بسهولة.
وفي قصة «مقطع تافه» ص ، وكان جميلا أن تكون المدينة المتوجه لها هي مدينتنا الغالية دمياط, فقد كانت تلك الفتاة التي أهداها روايته كما أخبر بطل القصة تضيق بالقراءة, لكنه جعلها جائزة لها إن قرأتها أثناء الرحلة, جلس بجوارها أربع ساعات هي مدة الرحلة حتى وصل إلي وجهته، أعرف شعور الكتاب حينما يتحاورون مع ذلك الجيل الذي يهتم بالتكنولوجيا والترفيه بينما القراءة لا تجد لها موضعا في سلم أولوياته, كما قال في القصة واصفا حالها ساعة أن عرض عليها قراءة الرواية: «وسألتها إن كانت تحب قراءة الروايات؟ صُدِمتُ من موقفها، إذ مطت شفتها السفلى إلى الأمام وهي تهز رأسها مبدية عدم قدرتها على متابعة رواية طويلة، وأن قراءاتها الأدبية لا تتخطى القصص القصيرة والقصيرة جدا، ومع أن ما قالته محبط وكاد يفسد مشروعي العاطفي، إلا أن إبليس همس يغريني أن عليَّ الاندفاع أكثر....»
يبدع حامد الشريف في الوصف ونقل أدق التفاصيل وذلك يعود لكونه دقيقَ الملاحظة تأخذه فسيفساء الحكي لأبعاد تتولد منها أبعاد، ثم تّكون صورة بانورامية كصورة غلاف مجموعته القصصية هنا القاهرة.
الحقيقة أن الكلام عن المجموعة القصصية هنا القاهرة لا ينتهي، ففيها كثيرُّ الذي يمكن أن يقال، فلغتها سهلة جذابة، وأسلوب سردها آسر جميل، وأفكارها تأتي من عقل يحمل ثقافة مجتمع ليس بعيدا ولا غريبا عنا، عقل موصول بقلب يحبنا ويعرف لنا قدرنا، لذا جاءت كلمة الغلاف الخلفي هكذا «مصر هي الأرض الوحيدة التي ذكرت في كل الكتب السماوية بلا استثناء، وتُوِّجت بذكرها صراحة في عدة مواضع من الكتاب المحفوظ (القرآن الكريم) منها قوله تعالى: فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، صدق الله العظيم ….»شكرا حامد الشريف على هذه المجموعة القصصية الممتعة، شكرا لهذه السياحة الفكرية والثقافية الإبداعية التي تّنقلنا فيها معك من الباص لعربة الأجرة مرورا بكوخ الطين في محافظة الجيزة حيث الأب المكلوم، والندوات الثقافية التي أحضرتنا إليها، وعلى الرصيف ننتظر صديقك يرد على هاتفك لتحمل له الهدية، ونزلنا معك لنشاهد أحلى بنات؛ بنات المنصورة، حتى سرنا معك في الأحياء الشعبية وشاهدنا عروس المولد، وشاهدناك وأنت تشتري الحمصية السمسمية والفولية، لكني أهمس في أذنك أستاذ حامد: منبع أشهى الحلويات ومصدرها الأصلي هي محافظة دمياط، التي جابت شهرتُها الآفاق.
في الأخير دمت بهذا الاحتشاد الإبداعي الجميل ودام حرفك الراقي، وإلى اللقاء في عمل أدبي جديد.
** **
- وداد معروف