سليم السوطاني
عندما تقرأ في الشِّعر، وتغوص عميقًا، يلفت انتباهك اضطراب نفسيات بعض الشعراء، وتقلباتهم وتناقضهم، وتجدهم شخصيات تبدو غريبة جدًا؛ لما تحمله من زعزعة في مواقفها وتصرفاتها. سأخصص الحديث في هذه المقالة عن شاعرين مشهورين؛ الأول المتنبي، والآخر الحطيئة، وسأنطلق من أسئلة سابرة، تتساءل عن النوازع النفسية لهذين الشاعرين: «ما الذي جعلهما على هذه الحال من نوازع نفسية عجيبة، واضطرابات غريبة»؟
ربما تكون عقدة النقص هي من دفعت بهما دفعًا إلى سلوك هذا الطريق - كما نلحظ – نعني الاعتداد بالنفس عند المتنبي وطلب السيادة، والهجاء اللاذع عند الحطيئة والنقمة على كل من يحيط به، حتى أمه لم تسلم من هجائه، بل حتى إنه هجا نفسه!
يجب أن نؤمن أولًا أن الشاعر يختلف من الناحية الإبداعية عن أي مبدع في المجالات الأخرى، فالشِّعر حالة خاصة، وليس كل شاعر بشاعر، ففي رأيي الشخصي أن الشاعر الحقيقي المتوهج هو من وهب نفسه لتيه الشِّعر، وجعل من الشعر أسلوب حياة خاصة، يتسربل به ويمارس من خلاله كل ما علق داخل نفسه، ويطلب ما يريد، ويفرغ كل عقده النفسية من خلاله...
لو تتبعنا نشأة المتنبي ونسبه، نجد أن والده مغمور، ولا نعرف عنه شيئًا، ولم يكن من علية القوم... وربما هذا الأمر أوغل في نفس الشاعر المتمردة، التي ظلت تعتد بحالها، وتطلب السيادة، وترى أنها الأحق بهذا الشرف، يقول في أحد الأبيات، التي قالها في حضرة مجلس سيف الدولة الحمداني:
سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا
بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ
هذا البيت يوحي لنا بمدى الاعتداد العالي بمكانته الاجتماعية، بغض النظر عن موهبته الشعرية الفذة، التي قال متباهيًا بأدبه في القصيدة نفسها:
أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي
وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا
وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ
ثم واصل يمدح شجاعته وفروسيته بقوله:
الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني
وَالسّيفُ وَالرُّمْحُ والقِرْطاسُ وَالقَلَمُ
كل هذا الاعتداد والفخر والزهو كان في قصيدة واحدة، فأي محرض دفعه إلى هذا الزهو؟ وإننا نجد في غالبية قصائده شخصية الشاعر المعتد بنفسه، حتى إنه في رثاء جدته لم ينس أن يشيد بعظمة نفسه، فقال:
وَلَوْ لَمْ تَكُوْنِي بِنْتَ أَكْرَمِ وَالِدٍ
لَكَانَ أَبَاكِ الضَّخْمَ كَوْنُكِ لِيْ أُمّا
وعندما قصد مصر، إلى كافور الإخشيدي، شاهدنا تقلباته بين مدح مغرق، ثم أعقبه بهجاء لاذع! فخطب ود كافور بالمدح، ثم عاد وهجاه هجاءً قاسيًا، وكل ذلك من أجل طلب السيادة ونيل مبتغاه، السيادة التي ظل يطلبها حتى قُتِل، وفي ذلك قوله:
يَقُولُونَ لِي: مَا أَنْتَ فِي كُلِّ بَلْدةٍ؟
وَمَا تَبْتَغِي؟ مَا أَبْتَغي جَلَّ أَنْ يُسْمى
فظلت السيادة والإمارة هي غايته المنشودة، على رغم موهبته العظيمة في الشعر وشهرته الواسعة.
ويأتي الحطيئة نموذجًا آخر، من حيث مزاجه السيِّئ والكآبة التي تمتد داخل شخصيته، الناقمة حتى على نفسه وأقرب النَّاس إليه. وبحسب ما قرأنا، فإن نسبه لأبيه مجهول، وهذا الأمر – ربما - تسبب له سوداوية داخل أعماق نفسه، فخرج شعره ناقمًا؛ يخفف ما بداخله من صراعات نفسية، ويواسي روحه بالشِّعر والسخط على الآخرين... وعلى رغم من قبح لسانه، وتعرضه للناس بالهجاء اللاذع، إلا أنه كان يحمل قلبًا عطوفًا لطيفًا، نجد ذلك من خلال قصيدته في استجداء الخليفة عمر، بإطلاق سراحه، عندما سجنه بسبب هجائه للناس، فكانت قصيدته الموجهة لعمر «إنسانية بحتة»، تدل على حبه لأولاده وخوفه عليهم وحرصه على حياتهم، يقول في مطلعها، مخاطبًا عمر:
ماذا تَقولُ لِأَفراخٍ بِذي مَرَخٍ
زُغْبِ الحَواصِلِ، لا ماءٌ وَلا شَجَرُ
أَلقَيتَ كاسِبَهُم في قَعرِ مُظلِمَةٍ
فَاِغفِر عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ يا عُمَرُ
ولعل هذه الطيبة تبدو جلية، وتشف عن كرم نفس، على رغم القسوة التي طبعته بها ظروفه الاجتماعية، وذلك في قصيدته التي مطلعها:
وَطَاوِي ثَلاثٍ عَاصِبِ البَطْنِ مُرْمِلٍ
بِبَيْداءَ لَمْ يَعْرِفْ بِها ساكِنٌ رَسْما
والتي ضمّنها قصة الأعرابي، الذي نزل به ضيف ولم يكن لديه قِرى، حتى كاد يذبح ابنه ويقدمه للضيف، ثم توجه إلى الله شاكيًا:
وَقَالَ: هَيَا رَبّاهُ ضَيْفٌ وَلا قِرىً
بِحَقِّكَ لا تَحْرِمْهُ تَا اللَّيْلةَ اللَّحْما
وَقَالَ ابْنُه لَمّا رَآهُ بِحَيرةٍ
أَيَا أَبَتِ اذْبَحْني وَيَسِّر لَهُ طُعْما
فَرَوّى قَلِيلًا ثُمَّ أحْجَمَ بُرْهةً
وَإِنْ هُوَ لَمْ يَذبَحْ فَتَاهُ فَقَد هَمّا
إن الصراعات النفسية، والتقلبات والاضطرابات عند الشعراء الموهوبين، سواء أكانت بسبب تنشئة، أم بسبب ظروف أخرى أوصلتها إلى هذه الحال النفسية الغريبة، أراها محرضة على الإبداع، وحتى الهجاء فهو فنٌ من فنون الشِّعر، بغض النظر عن الشيء الذي جعل الشاعر يزدري الآخرين ويوجه إليهم سهام هجائه... والشاعر إذا مدح شخصًا، ثم ناقض نفسه ورجع فهجاه فإن ذلك مرتبط بحاله عند المدح؛ إذ كان يرى من منظور أبدى له ما يستحق المدح، أو أنه كان يطمح إلى شيء - وهذا هو الغالب في قصائد المدح - وعندما تكشف له العكس، أو خذله الممدوح، عاد لتدمير المدح الذي شيده في المقام الأول وبيّن أنه كان مخطئًا حين مدح.
ومما سبق، نجد أن الشاعر كل ما يحيط به ينطبع في دخيلته ويؤثر في أحاسيسه، منذ بداية إدراكه، فذاكرة الشاعر ذاكرة قوية؛ تخزن كل الأحداث التي مرّت به، لذلك نجد أن نتاجَ الشاعر غالبًا يكون نتيجة ضغوط وصراعات وقلاقل نفسية، وأزعم أن الشاعر الحقيقي - من خلال قراءاتي في هذا الجانب - لا يعيش في حياته لحظات آمنة ومطمئنة، وكل حياته تتقلب على جمر القلق والشك والحيرة والاضطراب، وفي ذلك قول المتنبي:
وَمَا أَنا غَيْرُ سَهْمٍ فِي هَوَاءٍ
عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الرِّيْحَ تَحْتِي