ترمز الإبل في مخيلة العرب إلى الحياة واستدامة الحركة وإلى العمل الدؤوب واستمرارية الحياة وإلى الصبر والتحمّل في وسط بيئة صحراوية صعبة المسالك كثيرة المهالك، ولذلك كانت الإبل عند العرب تحمل قداسة خاصة ومنزلة عليّة، فهي الحيوان الذي يعيش ويتكيّف مع بيئتهم وحياتهم، وهي التي تصاحبهم في حلهم وترحالهم، فالإبل في الفكر العربي منذ أيام الجاهلية هي الهبة الإلهية القادرة على تحمّل الصعاب والمشاق في هذه البيئة القاحلة الجافة كثيرة المفازات، وهي التي باستطاعتها تذليل الصعوبات في حياتهم، فهي المنقذ الذي يحمل العربي ويبتعد به ليبلغ بيئة أفضل وأكثر خصوبة وأمنًا؛ ماءً ومرعى وأناسًا وأصحابًا، فهي الصديق وهي المأمن وهي وسيلة بلوغهما، وهي التي تقاسمهم صفة الصبر، بل ربما تعلمهم إياه، فتصبر عن الماء وعلى الجفاف والحر أيامًا عديدة في وسط الصحراء القاحلة، تمخر عبابها بكل جرأة وقوة وإقدام، ملازمةً لهم بكل صبر، حتى لقبت بسفينة الصحراء.
أخذت الإبل مكانة كبرى لدى العرب منذ القدم، وبلغت عندهم حدّ السمو والقداسة، ولهذه المكانة الرفيعة للإبل في نفوسهم قال الله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت)، فلم يكن إعجاب العربي بها قولًا يردد، بل هي من عجيب خلق الله فعلًا.
ومن عِظَمِ مكانة الإبل لدى العرب منذ ما قبل العصر الجاهلي، أنها المقياس الأمثل الذي تُقاس به ديات القتلى عندهم، وقد تبلغ دية أحدهم مئة من الإبل أو أكثر، كما أنه بالإبل يُقاس مهر الفتاة عند الزواج، وأرش الإصابات والجروح، وبها تُحلُّ العديد من المعضلات والقضايا الاجتماعية والشؤون الحياتية.
ومن شدة حب العرب للإبل وتفضيلهم إياها على سائر المخلوقات، احتلت هذه المكانة المقدسة في نفوسهم، فأحبوها وأجلُّوها، وأكثروا فيها الشعر والنثر، ووصفوها وبلغوا بالهيام بها عنان السماء. فعلى سبيل المثال نجد أن الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة التي مطلعها:
لِخَوْلَةَ أَطْلَالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ
تَلُوْحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ
نجده يصف الناقة ويتفنن في وصفها بثلث عدد أبيات المعلّقة والبالغة مئة وأربعة أبيات، بدأ هذا الوصف للناقة بقوله:
وَإِنِّي لَأُمْضِي الهَمَّ عِنْدَ اِحتِضَارِهِ
بِعَوْجَاءَ مِرْقَالٍ تَرُوْحُ وَتَغْتَدِي
فبالإبل يهرب من همّه وغمّه، ويسافر من خلالها إلى أجواء أخرى تخلو من الهموم والأحزان. فالناقة هنا وسيلة خلاص معنوي للإنسان تبعده عن واقعه المرير وهمومه المتراكمة، وتقذفه في خضم حياة أخرى بهيجة وسارّة كما يقول طرفة بن العبد.
وللإبل مكانتها الخاصة في نفس العربي في الجزيرة العربية منذ الأزل، فهي رزق وعطا، يعيشون من لحومها وحليبها، واستمر هذا الاهتمام بالإبل وهذه المكانة لها حتى عهد أجدادنا وآبائنا، فكانت للإبل مكانة رفيعة وسامية في نفوسهم، وقد كانوا يقومون بحمايتها من الأعداء كما يحمون أولادهم وجوارهم، وذلك بأرواحهم ودمائهم، ويشهد بذلك الكثير من القصص الواقعية قريبة العهد التي وصلتنا.
وتأصيلًا لمنزلة الإبل العظيمة في نفس العربي، فإن قيام مجلس الوزراء السعودي بإقرار تسمية عام 2024م بعام الإبل، يؤكد للعالم أجمع اهتمام قيادة المملكة العربية السعودية بموروثها العربي الأصيل وعناصر ثقافتها وهويتها التي يفاخر بها كل مواطن، واهتمامها بكافة العناصر المُشكِّلة للثقافة والتراث العربي المتأصلة بهذا البلد منذ القدم، كما يمثِّل استدعاءً لهذا الإرث الثقافي والتاريخي الأصيل النابع من هذه الأرض.
وقد سبق تسمية عام 2024م بعام الإبل، إسهامات مهرجان الملك عبد العزيز السنوي للإبل في دعم التراث السعودي والهوية الوطنية، وتعريفها للعالم أجمع من خلال هذا الدعم وذلك الاهتمام والتأصيل، فمرحبًا بكم في عام الإبل 2024م.
** **
د. ساير الشمري - دكتوراه في الأدب والنقد