أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
وُلد «صامويل لانجهورن كليمينس»، الذي عُرف واشتهر باسم «مارك توين» Mark Twain، في عام 1835، سادس ستّة أبناء لوالديه، في قرية خاملة تُسمّى «فلوريدا» بولاية «ميزوري»، والتي لم يكن يزيد عدد سكّانها على مائة.
ولم يكن مارك قد بلغ الرابعة من العمر، عندما نزحت العائلة لتستقرّ في مدينة «هانيبال» على ضفاف نهر «المسيسبّي»، التي لم يكن يزيد عدد سكّانها على خمسمائة، ولكنها دنيا جديدة واسعة إذا قورنت بمسقط رأسه. في هذه البلدة عاش حتى بلغ الثامنة عشرة من العمر، ولما رحل عنها بقي يحنّ إليها ويتشوّق إلى أيامها.
وحياة «توم سويَر» في قصّة مارك توين الشهيرة بهذا الاسم Adventures of Tom Sawyer قريبة الشبه جدّاً من حياته التي قضاها في هذه البلدة، على ضفاف النهر الذي يبلغ ميلاً في اتّساعه، مُراقباً الحياة الخطرة التي تقوم على صفحته: من مشاهد القتل، إلى قوافل العبيد، إلى أسواق النخاسة.. لقد تركتْ هذه المناظر أعمق الأثر في نفس الصبي اليافع، وبقيتْ تلاحقه طيلة حياته.
وإلى جانب هذه الصوَر القاتمة، كانت هناك أيضاً ذكريات جميلة للسفن التجارية، وهي تروح وتغدو مُحمّلة بالغلال، والصِبية يلهون بالزوارق في النهر.
إن هذه الذكريات نجدها كلّها بصورة أو بأخرى مبثوثة في كُتبه، كما أن كثيراً من الشخصيات التي عرفها هنا قد أدخلها في قصصه.
وعندما بلغ مارك الثانية عشرة توفّي والده، فاضطرّ إلى ترك المدرسة، وعمل مُنضّداً للحروف عند أخيه الأكبر منه سِنّاً، والذي كان يُصدر صحيفة محليّة، وبدأ في الوقت نفسه يكتب موضوعات وينشرها في صُحف البلدة.
وعندما بلغ مارك توين الثامنة عشرة، أخذ يرى نفسه أكبر من مجرّد مُحرّر صُحف محلية، واستبدّت به روح المغامرة، فأخذ يتنقّل من مدينة إلى أخرى: من «سانت لويس»، إلى «نيويورك»، إلى «فيلادلفيا»، مُحرّراً في الصحف ومنضّداً في المطابع.
وقد وصف هذه الفترة من حياته، عندما بلغ الخمسين من العمر، فقال: «لقد عملتُ مُحرّراً في الصحف مدّة أربع سنوات في المُدن، وحضرتُ لمدّة دورتين اجتماعات المجلس التشريعي، ولدورة واحدة اجتماعات الكونجرس، فأتاحت لي هذه الفرصة أن أعرف تمام المعرفة ثلاثة صنوف من البشَر: أما الصنف الأول فأصغر مَن خلَق الله عقلاً، والثاني أكثر الناس أنانيةً، والثالث أكثرهم جُبناً»!
وقادت مارك الظروف إلى أن يعمل، وهو في سنّ الثانية والعشرين، ملّاحاً في السفن التجارية التي تمخر عباب نهر المسيسبّي، فكان من وحي هذه السنوات قصة «حياة على المسيسبّي» Life on the Mississippi
وقد بقي ملّاحاً حتى توقّفت حركة السفن النهرية بسبب الحرب الأهلية، واشترك في الحرب لمدّة أسبوعين، ثم ترك الجُندية، وكتب عن ذلك قائلاً: «إن التفكير في الموت كان يملك عليّ خِناقي، فلا يتركني أنام، ولم أكن أستطيع له دفعاً.. تُرى كيف أستطيع أن أُقدِم على قتل إنسانٍ لا أشعر نحوه بأيّة كراهية، ولو رأيتُه في مأزقٍ لساعدتُه»؟!
وعاد في عام 1861 ليعمل في الصحافة، وفي عام 1865 أصبح مشهوراً فجأة، بعد أن نشر في صحيفة تصدر في نيويورك كتاباً مسلسلاً بعنوان «ضفدعة مقاطعة كالافيراس..»!
لقد وجد مارك توين أخيراً طريقه إلى الثروة، وذلك بأدبه الفكِه، الذي أقبل عليه القُرّاء إقبالاً جعله أشهر كاتب في الولايات المتّحدة.
ثم أنه التقى «بأوليفيا لانغدون»، وهي ابنة أحد رجال الصناعة الأثرياء، فتزوّجها، وأقاما في قصر في «هارتفورد» من عام 1871 إلى 1891، وقد أحبّ هذه الزوجة حُبّاً جمّاً، وقد عبّر عن حُبّه الكبير لها بقوله: «إن الحُبّ الصادق يُعرف من زيفه، بعد خمس وعشرين سنة من الزواج».
وكانت هذه هي أسعد فترة في حياة الكاتب الكبير وأغناها، إذ كان يكسب أحياناً أكثر من مائة ألف دولار سنويّاً، وفيها كَتب أشهر كُتبه.
لقد أصبح بليونيراً، وهو القائل: «إنني ضدّ أصحاب الملايين، ولكن الخطر كلّ الخطر أن أُصبح واحداً منهم»! وأصبح المجتمع الذي يتحرّك فيه هو مجتمع أرستقراطية المال، وأرستقراطية الفِكر.
اسنقبله رئيس الولايات المتّحدة، الجنرال «يوليسيس جرانت» في البيت الأبيض، ففاجأه بقوله: «سيّدي الرئيس، إنني لأشعر بالاضطراب أمامك، ألست تشعر أنت بذلك أيضاً»!؟
نال مارك توين الشُهرة مبكّراً، منذ كتاباته الأولى، إلا أن عرضه المرِح لموضوعاته خدع كثيراً من الكُتّاب المشهورين، فلم يستطيعوا أن يتبيّنوا ما فيها من فلسفة وعُمق، فلم يرَ «هنري جيمس» مثلاً فيه إلا كاتباً لا يصلح إلا لبُسطاء الناس، وطلبة المدارس.
كما أوصت «جمعيّة المكتبات» بعدم حفظ كتابه «مغامرات هكلبيري فِن» Adventures of Huckleberry Finn في المكتبات العامّة، لأنه لا يُعالج موضوعاً يبعث على التسامي.
ولكن شذّ عن هؤلاء جميعاً الكاتب الشهير «وليم دين هولز»، الذي أدرك منذ اللحظة الأولى أنه أمام عبقريّة فذّة، وسعى إلى صداقته، وأطلق عليه لقب «لنكولن الأدب الأمريكي».
كُتبتْ عن مارك توين الدراسات المطوّلة الكثيرة، واحتلّت قصصه المسارح وأُعيد نشر كُتبه في طبعات مختلفة.
حتى شخصية توين نفسه، قام بتمثيلها الممثّل المسرحي الشهير «فرانكو تون»، في شارع التمثيل والعروض المسرحية «شارع برودواي Broadway في نيويورك»، في الذكرى الذهبية لوفاته، فلقيت إقبالاً شديداً من الجمهور.
وفي بلدته «هانيبال» أقيمت التماثيل حتى لأبطال قصصه، وأُطلقت أسماؤهم على المسارح والحدائق والمقاهي والمتاجر.
تُرى لو قُيّض للأموات أن ينفضوا عن أنفسهم تراب القبر، ويعودوا إلى الحياة؛ أكان مارك توين يرى في كلّ هذا التكريم الذي رآه في غيره، حين قال: «حتى الحُبّ إذا بولغ فيه، فإنه يصبح ثقيلاً على النفس»؟ أوما قاله في كتابه «مغامرات هكلبيري فن»، ساخراً من تمجيد الناس للأفراد: «أليس كلّ الحمقى في البلد يهتفون لي»؟
فقد كان مارك توين في حياته محبوباً أشدّ الحُب، حتى من غير الأمريكيين أيضاً، فقد كان ذا قُدرة عجيبة على إزالة الحواجز بينه وبين قُرّائه، فيشعرون أنه قريب جدّاً من نفوسهم، وكذلك كان حاله مع كلّ من يتعرّف عليه.. ويُروى أن عُمّال ميناء «لندن» قد استقبلوه عند وصوله استقبالاً لا يحظى بمثله إلا الأبطال المحبوبون.
واسم مارك توين كان لامعاً حتى في «الاتحاد السوفييتي» السابق، ففي عام 1958 أُعلن في «روسيا» عن رغبة الحكومة في نشر جميع أعمال مارك توين في اثني عشر جزءاً، وفُتح باب الاشتراكات للمواطنين، فبيعت جميع النسخ في يومين!
ولعل سرّ هذا الحماس لمارك توين في روسيا، هو أنه كان ناقداً شديداً للحياة السياسية والاجتماعية وللديمقراطية الأمريكية.. وأقواله الساخرة في ملك النفط «جون روكفلر»، والسناتور «وليم كلارك»، والجنرال «ليونارد وود»، والرئيس «تيودور روزفلت»؛ ذائعة مشهورة.
فمن أقواله المأثورة عن «أمريكا»: «عندنا هنا في أمريكا، سُلطة تشريعية همّها أن تضمن للأثرياء ثراءً أكثر، وهي سُلطة لا أظن أن لها مثيلاً في العالَم».
لقد قامت شُهرة مارك توين بين الأمريكيين على تصويره الفَكِه الصادق لتلك الفترة التي عاشها، فيرون في كتاباته صورتهم المجلوّة، وإن كانت أشبه بالرسوم الكاريكاتورية!
وميزة أخرى لتوين، تلك هي أنه كان أول من نجح في كتابة قصصٍ باللهجة الأمريكية الصميمة، فجعل من هذه اللهجة لُغة أدبٍ تُقبل عليه الجماهير وتعشقه، حتى ليذهب الكاتب الروائي الأمريكي الشهير «إرنست همنجواي» إلى القول بأن: «كلّ الأدب الأمريكي الحديث، يستمدّ أصوله من قصّة «هكلبري فِن» لمارك توين».
إن أمتع أجزاء «هكلبري فِن»، هي تلك التي يتحدّث فيها عن طفولته، كما أن هناك أجزاء كان من العسير نشرها في حياته، أو حياة من يتحدّث عنهم.. فنرى في هذا الكتاب ثورة «مارك توين» على الفساد في عصره، وهو عصر اتّسم في رأيه بالنفاق والخداع والقسوة، واتّخاذ الدين ستاراً لارتكاب أبشع الآثام.
وفي النهاية، لم يلبث أن حالف مارك توين سوء الحظ، فقد اشترك في دار نشرٍ لم تلبث أن أفلست، فأتت على كلّ ما كان يملك، وتركته مديناً، مما اضطرّه إلى أن يقوم بإلقاء سلسلة من المحاضرات، مُتنقّلاً من بلدٍ إلى آخر، حتى يستطيع أن يسدّد ديونه.
وإذا هلّت المصائب دعا بعضها بعضاً، فلقد توفيّت ابنته «سوزي»، وتبعتها زوجته، ثم ابنته الصغرى، ولم يبق له سوى ابنته «كلارا».
وقد تركتْ كلّ هذه المآسي جراحاً في قلبه، ولم يُخفّف من آلامه ما ناله من تكريم بعد ذلك، حيث أخذت الجامعات الأمريكية تتسابق على منحه درجة الدكتوراه الفخرية.
ثم إنه بنى لنفسه بيتاً في «ريدينج» بولاية «كونّيتكت» عاش فيه مع ابنته، وفيه مات في سنة 1910، كما توقّع! وذلك عندما رأى قبل وفاته بأيام قليلة نجماً مُذنّباً، قيل له أنه كان قد ظهر أيضاً يوم مولده..! حتى الكاتب العبقري لم يستطع أن يُنقذ نفسه من سُلطات الخرافات والأوهام.
لقد مات الكاتب الذي أضحك الملايين، وقلبه يفيض مرارة، مات وشفتاه تُردّدان: «إن السعادة والحُبّ والثروة والشُهرة، ليست إلا قناعاً خفيفاً لحقيقة الإنسان خلفه، وهي: الألم والحزن والخزي والفقر».
** **
- من كتاب «سيرة مارك توين الذاتية» لتشارلز نايدر