د.عبد الرحمن الحبيب
تشهد الحكومة السعودية حركة سريعة غير معتادة في الوزارات والمؤسسات الكبرى اتسمت بإعادة هيكلة بعضها واختيار كفاءات جديدة من الوزراء وكبار المسؤولين، ونوعية مختلفة من خلال زيادة النسبة من جيل الشباب ومن القطاع الخاص، وسرعة إقالة المسؤول في الحكومة الجديدة إن لزم الأمر.
تفاعلاً مع هذا الواقع الجديد فإن المسؤول الجديد بدوره تحرك سريعاً وقام بإعادة هيكلة وتكليف وكلاء جدد للمؤسسة أو الوزارة التي يرأسها وممن تم اختيارهم كانوا من خارج المؤسسة. الوكلاء الجدد القادمون من خارج المؤسسة يواجهون - الآن - تحدياً كبيراً أمام الفريق أو جحافل الجيش البيروقراطي العتيق الذي اعتاد على نمط يصعب عليه تغييره. هذا التحدي يواجه أيضاً الوزير الجديد، إلا أن الوكلاء يواجهون الفريق العتيق بشكل أكثر مباشرة، وأكثر حدة. ما يهمنا هنا هو جهاز الخدمة المدنية باعتباره «الماكينة» التي تحرك أية دولة حديثة.
قبل أن أناقش الموضوع أود التأكيد أنه ليس المقصود هنا إهانة أو التقليل من شأن البيروقراطية فهي ضرورة أساسية لا غنى عنها لأية دولة حديثة، إنما أيضاً من أعراضها الجمود وتقديس الأنظمة وكثرة إجراءاتها، التي تتحول إلى غاية بحد ذاتها بينما هي أصلا وسيلة لخدمة الناس. وتلك ظاهرة موجودة في كافة الدول والاختلاف هو في درجة حدتها.
التحدي الأول الذي يواجه المسؤول الجديد هو نفسي شخصي، يتمثَّل في التعامل المتحفظ أو الحذر وربما الصدامي في الشهور الأولى من قبل بعض أعضاء الفريق العتيق من أبناء المؤسسة المخضرمين تجاه المسؤول الجديد قد يؤدي إلى علاقة متوترة بين الطرفين (المسؤول الجديد وكبار المسؤولين القدامى).
الأسباب تختلف؛ بعض كبار الموظفين يشعر نفسياً أن الوكلاء الجدد «استولوا» على أماكنهم، وربما كانوا في انتظار الترقية الروتينية متوقّعين الحصول على المنصب بشكل تلقائي، فهم وجدانياً يشعرون أنهم أحق من أولئك القادمين من قطاع آخر. هناك مشاعر الفريق ككل التي تخشى أن المسؤول الجديد القادم من القطاع الخاص أو من القطاع الأكاديمي قد يعاملهم بفوقية، بينما هم يعتقدون أنهم أفضل فهماً وعملاً بحكم خبرتهم العملية الطويلة في المؤسسة وتعاملهم مع الواقع ومع الناس. إنهم أبناء المؤسسة وقد أتاهم مسؤول من خارجها يرى أنه أعلم منهم بينما هم يظنون العكس.
هذه الحالة تواجه وكلاء الوزارات أكثر من الوزراء أنفسهم، لأنه من المعتاد أن يأتي وزير جديد من خارج الوزارة، فمنصب الوزير هو منصب سياسي إداري مرتبط بقيادات الحكومة (مجلس الوزراء) بينما منصب الوكيل هو منصب متخصص إداري مرتبط بقيادات المؤسسة نفسها.. لذا من المعروف على المستوى العالمي أن الوزير ليس ضرورياً أن يكون متخصصاً بالشهادة الأكاديمية في موضوع وزارته (وزير الصحة ليس شرطاً أن يكون طبيباً، وزير الزراعة ليس شرطاً أن يكون زراعياً)، وذلك على خلاف الوكيل الذي ينبغي أن يكون متخصصاً أو ممارساً لهذا التخصص.
بعد التحدي النفسي يأتي التحدي العملي في الإجراءات. يخشى البيروقراطيون من غشامة نوعين من المسؤولين الجدد: القادم من القطاع الخاص، والقادم من القطاع الأكاديمي. من وجهة نظر البيروقراطي، فإن الأول قد يستخف بأهمية «قداسة» الإجراءات النظامية، والثاني يبالغ بأهمية النظريات المثالية التي كان يلقيها في الجامعة.
المسؤول الجديد القادم من القطاع الخاص معتاد على الإجراءات التنفيذية المباشرة.. مرحباً، هنا البيروقراطية! لو يطلب الوزير تغيير طاولة لا بد من إجراءات قد تتطلب أياماً وربما أسابيع، وهناك في القطاع الخاص ربما الإجراء هو طلب شفهي ينفذ فوراً. في الأسابيع الأولى يصاب هذا المسؤول بصدمة «إجرائية»، لكنه في الغالب يفيق منها وقد يحسن صنعاً أو ربما تبلعه البيروقراطية أو يظل الأمر شد وجذب بينهما..
أما المسؤول الجديد القادم من القطاع الأكاديمي فقد لا يفصل جيداً بين النظريات التي يدرسها والواقع الذي يواجهه وربما كان يجهله في السابق، فضلا عن افتقاره لفهم الإجراءات البيروقراطية مقابل تمكنه من صياغة الكتابات بانضباط أكاديمي يجعل بعض البيروقراطيين يتندرون عليه. وأكثر ما يواجه هذا المسؤول هو صعوبة مبادرته للمقترحات والحلول الواقعية بكثرة ما اعتاد على النظريات النموذجية.
كبار الموظفين الذين تربعوا لسنين طويلة في كراسي المكاتب وخبروا دهاليز الإجراءات وطرق تنفيذها ووسائطها، قد تكون بأيديهم النتيجة الفعلية في نهاية المطاف رغم ما قد يبدو في البداية أن هذا المسؤول الجديد هو الآمر الناهي. لن يستطيع المسؤول الجديد تنفيذ برنامجه إن لم يتمكن من إقناع الفريق الذي معه داخل المؤسسة ببرنامجه وطريقته في العمل. ولن يتمكن من إقناعهم ما لم يستمع إليهم جيداً ويُقدِّر (من الأفضل أن يبالغ في التقدير) آراءهم وطرق عملهم، ثم يحاول إقناعهم بطريقته.
إن أكبر خطأ يرتكبه المسؤول الجديد هو أن يستقل بفريق مستشارين من خارج المؤسسة التي يديرها، مستغنياً أو مقلِّلاً من قيمة قدامى الموظفين في المؤسسة، فالجهاز البيروقراطي الذي يديره كبار الموظفين السابقين هو وحده من سيطبق برنامج المسؤول الجديد أو يعرقله أو حتى ينسفه مهما ظن هذا المسؤول أن الكرة دائماً في ملعبه. يقول توني بن الذي ظل عضوا في البرلمان البريطاني لسبع وأربعين سنة (توفي العام الماضي): الاتفاق الذي يعرضه جهاز الخدمة المدنية البيروقراطي للوزير الجديد هو: إذا عملتَ ما نريدك أن تعمله، سوف نساعدك أمام العموم متظاهرين أنك تطبّق البرنامج الذي انتخبك الجمهور من أجله.» لاحظ أن هذا يُقال في أعرق دولة ديمقراطية من أعرق برلماني فيها.
من خلال محادثاتي ومشاهداتي وبعض الحكايات من بعض كبار المسؤولين، يمكنني تصور أربع مراحل يمر بها الوزير الجديد القادم من القطاع الخاص: مرحلة الضياع (بضعة أسابيع)، تخف تدريجياً حتى يتوازن هذا المسؤول الجديد ويشعر بالثقة ويدخل مرحلة التحدي، وقد يكون معه فريق خاص من المستشارين «المحاربين»؛ قد يشعر بعدها بعدم جدوى المنافسة نتيجة ضخامة الفريق الآخر، فيضطر للدخول في مرحلة التفاهم، هناك احتمال كبير أن يشعر بالملل أو الضعف فيذوب برنامجه داخلاً مرحلة البرقرطة! التمني أن يتقلص هذا الاحتمال قدر الإمكان وذلك يعتمد على مهارة المسؤول الجديد في الإدارة والعلاقات العامة..