د.عبد الرحمن الحبيب
يُروى أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قبيل استشهاده سأل عبدالرحمن بن ملجم الذي ضربه بسيف مسموم: يا هذا!.. أبئْس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ فقال ابن ملجم: أفأنت تنقذ من في النار؟.. ابن ملجم لم يجب على السؤال بل طرح استفهاماً آخر، منتقلاً تماماً
عن سياق السؤال والحدث إلى سياق عدمي سولت له جرمه الشنيع، ورغم ذلك فالإمام علي لم ينكر رده، بل قال له: صدقت! ربما كان يجاريه كي يعريه أمام فعلته.. تقول الروايات أن ابن ملجم بكى أثناء هذا الحوار! ما الذي أبكاه؟ سنأتي لذلك في خاتمة المقال.
الآن، في منطقتنا العربية قتلة من هذا النوع ورغم ضآلة نسبتهم إلا أنهم مدمرون.. فمن حرَّكهم؟.. سؤال مهم نردده مرراً، لكنه يحتاج لإضافة وهي: أم هم تحركوا من أنفسهم؟.. نحن لا نرغب في الاقتناع بأن بعضهم أو أكثرهم تحركوا من قناعتهم الذاتية وإرادتهم الحرة، لأن هذه الإضافة تتحدى منطقنا ونُظمنا الأخلاقية وتحرجنا أمام أنفسنا. إنه مثلما يسألك ابنك الصغير عن مواضيع تحرَج من الإجابة عليها فتجيبه على جزء من السؤال أو تردعه معيداً صياغة السؤال له بما يناسب استقرارك الفكري.
لذا نكرر أسئلة من قبيل هل هؤلاء الشباب المندفعون للقتل تعرضوا لغسيل دماغ من آخرين أشرار، أم هم نتيجة اضطراب نفسي، أم هم ضحايا الفقر والبطالة أو وضع اجتماعي وسياسي مضطرب أو محتقن، أم هو جهل بمفهوم الدين المتسامح.. أسئلة لا تسأل عن إرادتهم هم أنفسهم كذوات مستقلة بل عما حولها.
إذا كان الفقر والظلم الاجتماعي سبباً، فما الذي يجعل شباباً يأتون من أوساط غنية ليشاركوا في الإرهاب؟ لماذا يترك أمثالهم في أوروبا بلدانهم المرفهة لينضموا مع داعش؟ هل هم حمقى، سذج، مرضى نفسيون، وبالتالي هم مخدوعون ومجرد أدوات لأناس أشرار يحركونهم.. فلا نأخذ أفعالهم بجدية من الناحية الفكرية والاجتماعية، ونستقر على ما نحن عليه من تصورات!.
هذا ما يعارضه تقرير أتلانتك مؤكداً أن غسيل الدماغ ليس سبباً للتطرف بل إن الأفراد الذين ينجذبون لمنظمات إرهابية يعتقدون أنهم يدافعون عما يعتبرونه قضية عادلة، وينضمون لهذه الجماعات لأنهم يريدون ذلك، ويعتقدون أن ما يقومون به هو الصواب. وفي حالة الجهاديين الغربيين فالكثير منهم مجندون ذاتيون يسعون بنشاط إلى أعمال العنف..
في رواية «صمت الحملان» الذي تحول إلى فيلم مذهل عن العدوانية البشرية، تصدمنا المقولة اللاسببية بواقعية مجردة، عن الإرهابيين لهانيبال ليكتر: «لا شيء تسبب في وجودهم، إنهم موجودون». القصد هنا، أنهم بإرادتهم الكاملة وبكينونتهم المستقلة وبدون خداع من أحد هم مهيؤون للأعمال المدمرة للنظام الاجتماعي المستقر.
هنا يجب أخذ الإرهابيين على محمل الجد وليس باعتبارهم حمقى، بل وكلاء أخلاقيين مستقلين يشعرون بجاذبية المنظمات الإرهابية، ويسمحون لأنفسهم بالانخداع من رسالة هذه المنظمات، ليكونوا مجندين على استعداد للتضحية بأنفسهم من أجل القضية والتنظيم. استيعاب ذلك، وليس كيف تم عمل «غسيل دماغ» لهم، هو المشروع التوضيحي الأكثر أهمية حسب أتلانتك.
بطبيعة الحال هناك عوامل متعددة ومتداخلة تناولتها الدراسات عن انجذاب الشباب لمنظمات العنف، فعلم النفس الكلاسيكي يرى أن التطرف متنفس لمشاعر عاطفية حادة ناجمة عن التعرض لأحد الضغوطات التالية: الظلم، انعدام الأمن، الإذلال، الاستياء، الخسارة، فقدان الهوية، الغضب؛ التي قد تؤدي بالأفراد والجماعات لتبني إستراتيجيات صراع تتناسب شعورياً بما يوازن قسوة هذه الضغوطات.. وبالتالي، فالمتطرفون يستخدمون العنف والإستراتيجيات المدمرة، ليس لأنها وسائل لتحقيق أهداف مفيدة، بل لأنهم يشعرون بأن ما يقومون به هو عمل خير وقصاص عادل.. الذي يحتضن هذه النفسية المتأزمة هو الإيديولوجيا، والتطرف الحالي يظهر من الأيديولوجيات الأخروية؛ فغالباً ما تنال الأنشطة المتطرفة قيمتها المعنوية لأنها تتفق مع طوباويات شمولية (دراسة ميشيل ويسلس).
تركز بعض هذه الإيديولوجيات على أنها ستزيل الكارثة المتمثلة في قوى الشر الحاكمة (الآخرون) وتمجيد الصالحين (المجموعة المتطرفة وحدها)، وبالتالي التأكيد على تدمير الآخر؛ وتصوير العمليات الانتحارية كاستشهاد عادل ونبيل.
نرجع لتقرير أتلانتك الذي يؤكد في استنتاجه الأخير أن الإرهاب مفهوم أخلاقي بالمقام الأول، وليس فكرياً، ولا يتعلق بالفشل؛ إنّه انتهاك لإنسانيتنا المشتركة وقدسية الحياة البشرية.
تستثمر الجماعات الإرهابية طاقة كبيرة في تبرير إيديولوجيا الإجرام، وينصبون أنفسهم كمدافعين عن الخير؛ لذلك، فالمهمة الرئيسة لأي برنامج لاجتثاث جذور التطرف هي فضح هذه المغالطة ومواجهة الإرهابيين بالوحشية المتأصلة في أعمالهم. لكن كيف يتم ذلك؟
يتم عبر الاتصال المباشر بينهم وبين الألم والمعاناة البشرية التي يتسببون فيها. وهناك أدلة قوية تشير إلى أن هذه الطريقة تنجح في أماكن العدالة الجنائية التقليدية، وأن المجرمين الذين يواجهون ضحاياهم هم أقل عرضة لارتكاب خطأ آخر. وربما تنجح هذه الطريقة مع الإرهابيين إذا منحناهم نفس القدرات الأدبية والفكرية التي نمنحها بسهولة لأنفسنا، حسب أتلانتك.
الآن في حياتنا اليومية، نرى شاباً مندفعاً يبحث بتمرده الخاص عن «الحقيقة والعدالة»، ينجذب مع مجموعة أصدقاء، ثم ينضوي حماسياً بتنظيم عنيف، ليصل به الأمر لتفجير مبنى لمدنيين، وعندما يتم اعتقاله قد يظهر في برنامج تلفزيوني تتم مواجهته بمقدار الألم الذي سببه للضحايا وذويهم، ولأهله، وحتى لنفسه، فيتحول إلى شاب وديع مسالم، وربما يبكي ندماً.. ما الذي غيَّره؟ أحياناً في المحكمة يصيح المتهم بعد إدانته وإقراره بالذنب بأنه مظلوم.. لكن لا يقول أنه بريء. البريء هم من لم يفعل، أما المظلوم فقد فعل ولكن لم يدرك مآلات فعلته.
بداية المقال إشارة إلى أن ابن ملجم بكى عندما سأله علي بن أبي طالب عن جريمته.. هؤلاء، ما الذي غيَّرهم؟ ربما هي مواجهة نتائج أعمالهم، فالشباب الذين ينخرطون في منظمات إرهابية يرون في البداية أن نشاطاتهم هي وسائل لتحقيق غاية، لكن مع مزيد من الانخراط ومعمعة الأحداث والصراع مع جهات مختلفة تتحول الوسيلة إلى غاية، أي أن أعمالهم الإرهابية تصبح غاية بحد ذاتها دون انتباه عقلاني.. المواجهة هي عملية تنبيه عقلاني تضع السؤال عارياً: إذا كانت الغاية تبرر الوسيلة فمن يبرر الغاية؟.