د. محمد عبدالله العوين
لا زال جمع كبير ممن يثق المجتمع في علمهم واعتدالهم وإخلاصهم لقيادتهم وحبهم لوطنهم صامتين؛ وكأنهم حيارى أمام ما يحدث، أو متوجسون خيفة من صدعهم بالحق، أو منتظرون من يدفعهم إلى القول. ونحن لا نشك أبدا في امتلاكهم الحجة القوية والدليل الذي يهزم أباطيل الفكر الخوارجي، ويسقط شبهه، وينسف استدلالاته المرتبكة القائمة على احتذاء مواقف قيادات في التيار الخوارجي قديماً وحديثاً، والمتكئة على اجتهادات ذاتية في تفسير النصوص وتأويلها وتكييف معانيها إلى ما يشبع نفسياتهم المملوءة بالأنا والمحتشدة بتضخم الذات والباحثة عن أدوار مجلجلة الصوت عميقة التأثير بليغة الاستقطاب عظيمة البقاء والخلود، وهكذا كان تأريخ الشطط الفكري الأيدلوجي في التاريخ الإسلامي؛ فقد لحظ الدارسون الملاحقون سير أعلام الخوارج شغفهم بالرئاسات، وتوقهم إلى القيادة، وتطلعهم إلى إشباع غرائز الانتقام والتعبير عن الاحتقان تحت ذريعة رفض الخروج على أوامر الشرع أو الدفاع عما يزعم الخوارج أنه الحق؛ كما فعل الجيل الأول منهم في المسلمين حين وقع الخلاف بين معسكري علي ومعاوية، ثم انقلبوا على من انتصر بهم، وقتلوا وبقروا بطون الحوامل واستحلوا ما حرم الله؛ بحجة أنهم خرجوا على ملة الإسلام!
وهكذا سار الأزارقة قديما، وهكذا سار الجهيمانيون حديثا؛ فقد استحل جهيمان إراقة الدم الحرام في بيت الله الحرام في الأشهر الحرم، وقد هيأ أتباعه لارتكاب مخازيه وجرائمه بالهجرة عن المجتمع والنأي عنه في إحدى هجر المدينة المنورة؛ بدعوى الابتعاد عن مواطن الفساد؛ متأثراً بمن وفد على المدينة من جماعة التكفير والهجرة المصرية؛ فمزج بين ما تلقاه منهم من أفكار حرمت العمل في الحكومة أو التعلم في مدارسها أو استعمال نقودها بما تأثر به من فهم سطحي للنصوص أو تفسير غير واع لمواقف السلف الصالح، وهكذا استفحل داء التكفير في شريحة كبيرة من أبناء جيل التسعينيات الهجرية من القرن الماضي، وكأن المجتمع قد اطمأن إلى أن فتنة التكفير قد انقرضت بإعدام 63 ضالاً على رأسهم جهيمان نفسه صبيحة يوم الأربعاء 21 من صفر من عام 1400هجرية، ولكن الفكر الخوارجي الذي عاش قبل جهيمان ما يقرب من ألف وثلاثمائة وستين عاما ولم ينقرض لن يموت بموته، فما لبثنا إلا خمسة عشر عاما فقط وتجدد ذلك الفكر بتجدد الأحداث التي توسل بها أصحاب الأغراض الرديئة للوصول إلى غاياتهم في إرباك الأمن وإسقاط الدولة متخذين لذلك ذرائع شتى، والحق أن التكفير واستحلال دماء الناس لا يحتاج عند من لا يخاف الله ولا يتقه إلى توسل بأعذار؛ فالضال الذي ينساق إلى هوى نفسه وما يغشاها من طغيان كراهية المجتمع أو عدم الانسجام معه أو الشعور بالنقص أو استفحال النقمة من السلطة، أو الشعور باللاجدوى أو الفشل الذاتي، أو الرغبة في التعبير عن السخط على الدولة لعدم تحقق أي من مطالب الخوارجي في الوظيفة؛ لن يعدم من يريد التعبير عن كراهيته من تفسير أو تأويل يتكئ عليه ويزعم لنفسه أنه يجد فيه الدليل القاطع والبرهان البين على أن المجتمع من حوله ضال منحرف لا بد أن يسعى إلى إعادته إلى جادة الصواب باعتزاله وإعلان النقمة عليه وتحشيد الناس لقتاله باسم الجهاد ونيل الأجر والثواب؛ فيستحل التكفيري بما أوهم لنفسه من أفكار ضالة إراقة دماء المسلمين وأموالهم ويتخذ من نسائهم سبايا.
وهكذا تمكن داء التكفير مع تطور أحداث المنطقة بعد احتلال أمريكا العراق، ثم بعد ثورات ما سمي بالربيع العربي ووظف الأعداء تيار الناقمين على أوضاع الأمة؛ لتتحول من رغبة في التحرير إلى جهاد موهوم للتدمير والخراب والقتل كما هو حاصل الآن في كثير من الدول العربية.
الخلل عقدي بحت، وأمر إصلاح الانحراف العقدي لا يعود إلا إلى علماء الدين، وكثيرون منهم لا زال مقصراً في كشف وجوه هذا الانحراف وإسقاط حججه وإبطال شبهاته.