د.عبد الرحمن الحبيب
عبارة «مائة يوم الأولى» من الحكم اصطلاح يقصد به عينة زمنية أولى من الحكم، أطلقه الرئيس الأمريكي روزفلت في خطابه الإذاعي عام 1933م لطمأنة شعبه في مواجهة الكساد والبطالة؛ ثم صار عُرفاً عالمياً على المستوى الإعلامي والشعبي رغم أن الأكاديميين يعتبرونه مقياساً غير دقيق.
الرياض احتفلت بطريقتها الخاصة بمرور مائة يوم على حكم الملك سلمان بن عبد العزيز لأنه كان رائد نهضتها لعقود، فضلاً عن أن له دلالة مميزة لأننا رغم الفترة الوجيزة شهدنا تطوراً كبيراً شمل المملكة كلها يديره الملك وفق رؤية استراتيجية أصبحت واضحة المعالم.
في خضم تلاطم الأحداث الجسام التي تمر بها المنطقة العربية وفشل بعض بلدانها أمنياً و/أو اقتصادياً، تركزت استراتيجية الملك سلمان على الأولوية الحازمة للأمن والتنمية. يمكن تحديد هذا التطور الاستراتيجي على ثلاثة مستويات: مستوى العائلة المالكة، مستوى الدولة والحكومة، المستوى الإقليمي والدولي.
آلية تنفيذ هذه الاستراتيجية تميزت بالحيوية: السرعة والكفاءة.. إضافة للشفافية؛ فعلى مستوى هيئة البيعة أُعلن عن نسب التصويت، وعلى مستوى الحكومة أُعلنت أسباب إقالة بعض كبار المسؤولين. مثلاً، أوضح تقرير تلفزيوني لقناة العربية تفاصيل إعفاء وزير الإسكان السابق. كذلك أظهرت القيادة تواصلاً شعبياً مع وسائل الإعلام الجديدة لعل أوضحها وجود حساب للملك سلمان في تويتر، وعرض اجتماعات مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، فضلاً عن سرعة الاستجابة لما تظهره وسائل إعلام الإنترنت.. تلك الظواهر هي سمات تطويرية جديدة يضفيها الملك سلمان على حكمه.
بالعودة إلى المستويات الإستراتيجية الثلاثة، نجد أنه على مستوى العائلة المالكة وطَّد هذا التطوير سلاسة انتقال الحكم وأمَّن استمراريته المستقبلية بتسليمه لأول مرة لجيل جديد من أحفاد الملك المؤسس، وكان الاختيار على أساس الكفاءة وليس على أساس العمر. فولي العهد الأمير محمد بن نايف أظهر كفاءة نادرة يشهد له العالم في المجال الأمني ومكافحة الإرهاب، وكذلك ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أثبت كفاءة مميزة في وقت وجيز بقيادته لوزارة الدفاع والديوان الملكي ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية.
على مستوى الدولة تركزت استراتيجية الملك سلمان على توطيد الأمن واستمرارية التنمية، وإعادة هيكلة لكثير من مؤسسات الدولة، وعلى رأسها قراراته بإنشاء مجلسين يوجهان عمل الدولة، هما: مجلس الشؤون الأمنية والسياسية، ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، أوكلهما للأكفأ: المجلس الأول أوكله لولي العهد والثاني لولي ولي العهد. تلك آلية واضحة لأولوية الأمن والتنمية المشار إليهما.
على مستوى الحكومة طُلب من الوزارات والمؤسسات الكبرى إصدار استراتيجية لكل جهة معنية بأسرع وقت ممكن باعتبارها استراتيجيات جزئية تنبع وتتكامل مع أهداف الاستراتيجية الوطنية الشاملة. كذلك أعيدت هيكلة بعض القطاعات، مثل إعادة هيكلة قطاع النفط، وهو أهم قطاع استراتيجي. واختير للحكومة كفاءات جديدة من الوزراء ونوعية مختلفة من خلال زيادة النسبة من جيل الشباب ومن القطاع الخاص ليبث مزيداً من الفاعلية لتنفيذ الأعمال الحكومية.
وخلال المائة يوم شهدنا أيضاً تغييرات مرشحة لانطلاقة نوعية في فاعلية الأداء الحكومي بشكل أكثر عملية. فقد رأينا سرعة إقالة بعض الوزراء لأسباب عملية بحتة.. ولاحظنا كيف تم الاحتفاظ بوزراء أقدم نتيجة إنجازاتهم المميزة كالوزيرين عادل الفقيه وتوفيق الربيعة، إضافة لتغييرات سريعة لكبار المسؤولين في الحكومة عند حدوث خلل أو خطأ ما في أدائهم ويكون أحياناً استجابة لرغبة شعبية.
صارت الرسالة واضحة للوزراء ولكبار المسؤولين أن أمامهم اختباراً مستمراً للإنجاز، وأن القرار الملكي لن يكون بطيئاً بل أسرع مما كانوا يتوقعون على الطريقة السابقة التي كانت حليمة فالطريقة الحالية أصبحت حازمة.. خذ مثلاً التقرير الذي بثته قناة العربية الذي أوضح فيه وزير التربية والتعليم الدكتور عزام الدخيّل عن أسباب إقالة وزير الإسكان، قائلاً: «وزارة الإسكان كان لديها فرصة ومبالغ كبيرة مرصودة لإنجازات الإسكان، ولكن... لما جاء عرض الإسكان [في مجلس الاقتصاد والتنمية] فإنه كان تكراراً للسنوات التي مضت».
إذا انتقلنا إلى المستوى الثالث وهو الإقليمي والدولي، نجد أن الخطاب الشامل الأول للملك سلمان ركز على التهدئة موضحاً أن سياسة المملكة سائرة لتحقيق التضامن العربي والإسلامي بتنقية الأجواء وتوحيد الصفوف لمواجهة المخاطر والتحديات المحدقة بهما. ذلك لا يعني أنها سياسة ليست حازمة، ومن هنا أتى عنوان المعركة «عاصفة الحزم» التي توقفت عاصفتها وبقي حزمها كما عبَّر كثيرون..
أظهر الأداء السعودي عسكرياً وسياسياً أن السعودية قادرة عسكرياً كما هي قادرة اقتصادياً، وأصبحت أكثر حزماً تجاه التوسع الإيراني أمام تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة وضعف قيادتها للتحالف الدولي ضد الإرهاب.. فالسعودية الآن هي التي تقود تحالفاً دولياً لمواجهة الإرهاب على حدودها الجنوبية.. وتدير تفاهماً دولياً على مستوى المنطقة ككل، وأخذت زمام المبادرة عربياً لتغطية الفراغ الذي شكله تراجع الدور العربي لبعض دوله.
هذا التطور الكبير الذي يقوده الملك سلمان شهد له العالم، واعتبره بعض المراقبين الخارجيين أكبر تغيير في تاريخ السعودية (الواشنطن بوست، لوموند)، حتى أن البعض أطلق عليه الدولة السعودية الرابعة، ولكني لا أظن هذا التعبير دقيقاً على الأقل حتى الآن؛ فكافة مواد النظام الأساسي للحكم (وهو بمثابة الدستور) لم يطرأ عليها تغيير بل حصل تفعيل وتطوير لها. صحيح أن القرارات الملكية أحدثت نقلة كبيرة لكنها - إن صح التعبير - في الدرجة وليس النوعية.. أي تطويراً وليس تغييراً، لكنه ليس أي تطوير بل تطوير استراتيجي فعَّال. هذا ما أكده الخطاب الشامل الأول للملك سلمان الذي أوضح أن السمة اللازمة للدولة هي التطوير والتحديث، بعد أن أكد على المواصلة بالتمسك بالثوابت التي قامت عليها المملكة، وهي العقيدة الإسلامية ووحدة البلاد وتثبيت أمنها.
نشهد الآن نقلة تطويرية كبيرة تتمثل في وضوح استراتيجية الدولة وحزمها في تطبيقها، أثمرت فاعلية في الأداء الحكومي، والأداء السياسي الدولي عبر النجاح الباهر للمملكة في الأمم المتحدة خاصة فيما يخص الملف اليمني، ونجاح في الأداء العسكري. إذا كانت مرت أكثر من مائة يوم من حكم الملك سلمان فإن لها تأثيراً أكبر كثيراً من حجمها الزمني الذي يمر سريعاً في عمر الأمم.. إنها أيام لها ما بعدها!