د.عبد الرحمن الحبيب
دخل جنديان مسلحان في مواجهة، وأصاب أحدهما الآخر بجروح مميتة. الجندي المنتصر، يرى أنّ قتل خصم جريح ليس عملاً شريفًا؛ لذا غادر ميدان المعركة، ولكن الجندي المصاب ناداه، وطلب منه إنهاء معاناته إما من خلال الموت أو العلاج الطبي».
«العراق وأمريكا هما هذان الجنديان، العراق ينزف الآن؛ لذلك من واجبك الأخلاقي إما قتل العراق، أو علاجه». هذا ما رواه الشيخ خميس الفهداوي، زعيم عشيرة «البو فهد» للرئيس السابق بوش عندما التقى به في البيت الأبيض (فورن بولسي).
العبرة واضحة هنا إنما الوضع متبعثر هناك.. خذ ما قاله أبو قاسم من تنظيم داعش (انشق عنه قبل أشهر)، وكان ضابطاً في نظام صدام: «كان لدينا اتفاق مع الضباط العراقيين لشن هجوم وهمي ضدهم. لذلك؛ أطلقنا الرصاص بالهواء، ثم قدّم الضباط تقريراً إلى قائدهم يذكرون فيه أنه بسبب هذه المعركة، خسروا الأسلحة، ولكن بالحقيقة؛ هم باعوا الأسلحة لنا» (فورن بولسي).
وحسب تقرير لمعهد تشاثام هاوس فسقوط مدينة الرمادي مؤخراً بيد داعش يوضح أن الجيش جزء أساسي من المشكلة عندما أعطى القادة الفاسدون الأسلحة الأمريكية وأسرار الجيش لداعش مقابل المال مثلما حصل في الموصل؛ بالمقابل الفساد المنتشر في الجيش العراقي عمل على تعزيز سلطة «الحشد الشعبي» الطائفي.
ما هي خطة الحكومة العراقية؟ شذر مذر! فبعد سقوط الموصل تصايحت قياداتها بأن العالم قد خذلهم وتركهم لوحدهم مع الإرهاب.. فتدخلت أمريكا على الخفيف بضربات جوية لتحسين المواقع وليس لحسم الحرب. تحسنت مواقع الحكومة العراقية فعلت أصواتها بمنع تدخل قوات التحالف عدا أمريكا.
بعد مزيد من التحسن قرر قادة هذه الحكومة تحرير تكريت رغم الدعوات الأمريكية بالتريث لأن الجيش العراقي غير جاهز، لكن قال مسؤولو الحكومة العراقية بثقة مفرطة أن التحرير سيتم خلال ثلاثة أيام، وتفاخروا بأن العملية هي عراقية صرفة تفكيراً وتخطيطاً وتنفيذًا.. فالعراق مستقل وذو سيادة لا يقبل أي تدخل.. تلك جراءة كاريكاتورية، فالنفوذ الإيراني طاغٍ على الحشد الشعبي وهو أكبر فصيل في المعركة، والإذن الأمريكي لازم لكل خطوة.
المعركة طالت، وتكبدت القوات الحكومية خسائر فادحة، فعادت أصواتها تستجدي العالم: «لا تتركونا وحدنا»، تستجدي أي قوة في التحالف الدولي لاستخدام سمائها بضرب داعش في تكريت؛ فوافقت أمريكا شرط خروج الحشد الشعبي الطائفي، فأذعنت الحكومة العراقية وتحررت تكريت. عادت الثقة للحكومة العراقية فانطلقت للأنبار بجيش يتجرجر ويتقن الهروب، وبدلاً من طرد داعش حول الرمادي، ولى الجيش العراقي هارباً تاركاً عاصمة الأنبار لقمة سائغة لداعش.. ليتجدد سيناريو الموصل..
الآن تقول الحكومة العراقية إنها ستعيد استراتيجيتها.. هل كانت تمتلك استراتيجية أم تسيير عمليات وقتية بإدارة قليلة الخبرة كيلا نقول فاسدة؟ وحتى الحكومة الأمريكية قال وزير دفاعها السابق روبرت غيتس لقناة «إم إس إن بي سي» بعد سقوط الرمادي، إنه «لم تكن لدينا استراتيجية فعلية على الإطلاق. نحن نقوم بهذه المهمة كل يوم بيومه».
لكن ماذا عن داعش؟ يقول روبيرت بيير، محلل الشؤون الاستخباراتية: «أغلب القادة العسكريين في داعش يعلمون ما يقومون به فهم عسكريون سابقون بنظام البعث..». الأسبوع قبل الماضي نشر معهد دراسات الحرب بواشنطن تقريراً يعرض استراتيجية وتكتيك داعش وخطوات مواجهته.
الهدف العام لداعش هو إقامة خلافة عالمية على مشارق الأرض ومغاربها، عبر حرب دائمة حتى تقوم الساعة. هذه إستراتيجية عدمية لا يقبلها العقل؛ إلا أن الأهداف الأساسية لداعش واضحة: البقاء والتمدد. الهدف الأول (البقاء) يتحقق عبر الدفاع المستميت عن المناطق التي احتلها في العراق وسوريا؛ مع الهدف الثاني (التوسع) عبر عمليات التفجير والقتل والتجنيد والدعاية. الهدفان متزامنان، فعندما يتعرض التنظيم للضغط أو لخسائر تكتيكية، يتوسع في مناطق الاضطراب البعيدة (ليبيا وسيناء). توقيت هذا التوسع يزيد من زخم داعش أثناء مواجهته لهجمات داخل العراق وسوريا.
تكتيكياً أظهر داعش مرونة في التكيف مع الظروف الميدانية عبر تجنب المواجهة المباشرة، والتغلغل في المناطق الصحراوية لتعطي التنظيم حرية المناورة خارج المدن حتى يتمكن من الهجوم عليها لاحقا. ورغم أن التقرير لم يطرح الأنبار كمثال، فهو نموذج لهذا التكتيك، حيث ظل داعش يسيطر على مناطق صحراوية شاسعة فيها داخلاً في كر وفر على عاصمتها الرمادي لأكثر من سنة حتى سقطت الأسبوع الماضي.
لمواجهة داعش -حسب التقرير- ينبغي تركيز الهجمات ضده في العراق لأنه مركز خلافته، لكن، لا تتركز على المدن فقط. فإذا كانت السيطرة على المدن هي المقياس فإنها ليست مقياس لهزيمة القوة القتالية لداعش الذي يهتم بالمناطق البعيدة عن المدن والقدرة على المناورة في الصحاري أكثر من المدن الفردية كي يسيطر على الأقاليم. الضغط على داعش في مدينة واحدة بوقت واحد سيجعله يتحول إلى مدينة أخرى، بدلاً من تكبده خسارة مستديمة. إذا لم تتم إزالة تدريجية شاملة لداعش مثلما حدث مع تنظيم القاعدة، فإنّ السيطرة العسكرية له في أنحاء العراق وسوريا ستستمر..
لدعم هذا الهدف لا يعني قتل عدد معين من المقاتلين بل الحد من قدرة داعش على المرونة والارتداد لاستئناف العمليات الهجومية. أفضل تكتيك ليس لهزيمة داعش دفعة واحدة بل لدعم مزيد من الانتصارات التكتيكية المتعاقبة والمتراكمة لتحقيق أقصى فاعلية للحرب البرية التي تصب بنهاية المطاف لتحقيق الأهداف الاستراتيجية.
المفارقة أن التقرير تناول تكتيكات استرداد المدن من داعش، لكن قبيل نشر التقرير كان داعش قد أستولى على الرمادي، ليضفي مزيداً من الرمادية على الأوضاع.. إنما الواضح أن المشكلة بنيوية في جيش عراقي سريع الهروب لأن أفراده يفتقرون للعقيدة القتالية. يقول باحث بمعهد تشاثام هاوس: الناس لا تريد أن ترسل أبناءها للموت لضباط فاسدين سيبيعونهم لداعش..».
لكن هناك صفقة تكتيكية أخرى لداعش، فقد روى أبو قاسم عند دخول داعش للفلوجة العام الماضي كيف أعطى 200 دولار للموظفين في مستشفى الفلوجة، لكسب ولائهم. وقال: «بعد ذلك، جاء شخص من داعش وأعطى كل موظف ألف دولار، وبدأ الجميع يهللون: الله أكبر». إنما مجرد أن يثبت داعش أقدامه في المدينة سرعان ما يقلب حياة الناس إلى جحيم.. لذا هرب الناس من الرمادي وتركوها مدينة أشباح..