د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
أكد الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معالي الدكتور عبد الرحمن السند - في حديثه إلى المسؤولين بالرئاسة بعد تعيينه في منصبه الجديد - على أهمية تطبيق قاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح). ومعالي الرئيس عالم ضليع (دكتوراه في الفقه المقارن)، أهّله علمه لتقلُّد مسؤوليات علمية جسيمة.
وقد حاز على نصيب من علوم الدنيا، حيث كان حاصلاً على بكالوريوس الحاسب الآلي قبل التحاقه بكلية الشريعة.. لذلك لا أحسبه يضيق ذرعاً بتناول هذه القاعدة في مقاربة علمية قد تصيب وقد تخطئ.. وقد وُفّق معاليه في تأكيد أهمية هذه القاعدة الأصولية المشهورة التي تُعدّ من أعظم القواعد الصالحة للتطبيق، ليس فقط في (المفاسد) الأخلاقية، بل والاجتماعية والمهنية والإدارية.. والمنطق يسند هذه القاعدة، حيث إن تأثير وقوع المفسدة المؤكدة فوري، بينما يمكن جلب المصلحة في أي وقت.. فلو أن قافلة تجارية محمّلة ببضائع ينتظرها التجار والمستهلكون على أحرِّ من الجمر قدمت إلى إحدى المدن، ولكن ظهرت قبل وصولها حالة وبائية بين المرافقين لها، فسيكون القرار الصائب هو عدم السماح بدخول القافلة، إلى أن يتم عزل المصابين والاستقصاء الوبائي للمخالطين.. وسيتذمّر التجار والمستهلكون من تأخر البضائع لأنه يضر بمصالحهم، لكن خطر تفشي الوباء أسرع وأعظم، أما استلام البضائع فسوف يحصل ولو تأخر.. ومن الأمثلة المتكررة - إن بقينا في الحقل الصحي - تغيير الطيار لمسار طائرته المحمّلة بالركاب المتجهة إلى لندن مثلاً إلى أقرب مطار من موقع الطائرة لإسعاف راكب انتابته فجأة أعراض جلطة قلبية. من غير المقبول القول بأن في ذلك إضراراً بمصلحة شركة الطيران أو رجال أعمال مرتبطين بمواعيد في لندن. والأسباب واضحة.. في حالة المرور - مثلاً - يُتوفى كل عام بضعة آلاف من الناس ضحيّة حوادث، ومثلهم ينتهي به الأمر إلى ضرر دائم، فالمفسدة هنا - وهي حدوث الموت أو الضرر - واضحة، ولكن لا أحد يطالب بمنع استخدام سبب المفسدة، وهو السيارة.. فالناس اليوم لا يستطيعون العيش بدون سيارات تنقلهم وتنقل حاجاتهم في المدن وبين المدن، وإلا تعطلت مصالحهم، ومن ثمّ أسباب معيشتهم، ومن ناحية أخرى هناك وسائل للحدّ من تفاقم تلك المفسدة، مثل أنظمة المرور والتوعية واشتراطات القيادة، وتحسين الطرق وتعميم وسائل النقل العام. فالتناسب هنا بين المفسدة والمصلحة يأتي في صالح المصلحة.. في مقابل ذلك توجد مفاسد لا يمكن العثور على مصالح تُقارن بها، مثل المخدرات والمسكرات، فهي في ترويجها وتعاطيها مفسدة خالصة، وإن كان ثَمّة مصلحه فهي مصلحة المفسدين - أي المروِّجين.. فما الذي يمكن قوله بالنسبة للتبغ؟.. إنه بالفعل مفسدة للصحة وللمال، وليس وراءه مصلحة تُذكر إلا للباعة والضرائب الجمركية.. ومع ذلك ليمنع حتى الآن ولا يعاقب مستوردوه أو بائعوه، وإنما تمّ تحجيم آثاره من خلال منع التدخين في الأماكن العامة وأماكن العمل، ومن خلال التوعية بمضاره الصحية وفتح عيادات للإقلاع عنه، كما أن خطره لا يصيب القوى العقلية أو الوعي أو الوازع الأخلاقي، لهذا كان المنع محدوداً خشية اللجوء إلى ما هو أشد ضرراً، أو انتشار عمليات تهريبه.. وقد أفلح التحديد في جعله مكروهاً ومحاصراً.
المقارنة التناسبية بين المفسدة والمصلحة لا تأتي بالسهولة نفسها عند تناول أمور تحيط بها اعتبارات دينية أو اجتماعية متحفظة، مثلما نجده في المثالين التاليين اللذين حظيا بالكثير من النقاش.. أحدهما هو إبقاء المحلات مفتوحة في أوقات الصلاة، وفي هذا المثال نقصد وقت صلاة العشاء.. والموضوع ذو أهمية كبيرة في الوقت الراهن، حيث يدور الحديث عن احتمال صدور قرار بإقفال المحلات بعد التاسعة مساءً.. ولا يكون القرار مجدياً إلا إذا سمح للمحلات أن تبقى وقت صلاة العشاء مفتوحة.. فأين المفسدة وأين المصلحة في إبقاء المحلات مفتوحة؟.. ظاهر المفسدة هو أنه يخالف الأمر بإجابة النداء - أي الأذان - وفيه تهاون بواجب الصلاة مع الجماعة في المسجد.. ومما يصغّر من حجم هذه المفسدة كون المساجد مفتوحة تُقام فيها الصلاة، ومدتها الفعلية حوالي سبع دقائق وليس (45) دقيقة، كما أن المحلات الكبيرة توفر مكاناً للصلاة جماعة.
ومن ناحية أخرى فإن في وقت صلاة العشاء سعة لمن احتاج للتأخير - لا سيّما البائع الذي هو أيضاً بمثابة حارس للمحل.. أما ظاهر المصلحة فهو تجنّب الإضرار بالبائع والمشتري بإتاحة الوقت الكافي للتبضّع وقضاء الحاجات، إذ إن قفل المحلات مدة (45) دقيقة لا يبقى إلا ساعة بعد صلاة المغرب، وبعد صلاة العشاء لا شيء في الصيف وساعة في الشتاء، وكل ذلك شامل للوقت اللازم للوصول للمحلات، علماً أن الكثير من الناس يتردد بين أكثر من محل.. ولذلك فإن في إبقاء المحلات مفتوحة دعماً لمصلحة أخرى هي غلق المحلات بعد التاسعة مساءً، لما يترتب عليها من قضاء وقت أطول مع العائلة في المنزل قبل النوم، وكسب مزيد من الهدوء الليلي في الأحياء السكنية التي توجد بها أو حولها محلات تجارية، وتقليل عدد مرّات الازدحام المروري عند الذهاب إلى والإياب من الأسواق.. كما أن الإغلاق عند التاسعة مساءً عامل من عوامل جذب السعوديين للعمل في تجارة التجزئة.. فعند الموازنة يتقدّم جلب المصلحة، كما يبدو.. أما المثال الثاني فهو متعلق بقيادة المرأة للسيارة، وقد تناوله الكثير من الأقلام ما بين مؤيّد ومعارض أو متحفظ.. وأبرز حجج المعارضين التي تهمّ في موضوع هذا المقال - هي أن درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.. فحتى لو كان في قيادة المرأة مصلحة ما، فالأولى هو تجنّب ما ينتج عنها من مفاسد الاختلاط والانفلات: الاختلاط وكشف الوجه عندما تطلب منها الرخصة، أو عند الذهاب للمركز، أو عند طلبها للمساعدة في حالة العطل مع ما قد يحصل من تحرش أو أذى، والانفلات عندما تذهب المرأة إلى حيث لا يُعلَم أين تريد؟.. وما ورد من هذه التخوفات قد يصدق في حالات فردية شاذة، إلا أن وزن ذلك مع حرمان نصف مليون امرأة على الأقل - يذهبن يومياً إما للعمل أو لقضاء حاجات منزلية أو للمراجعة في شؤون تخصهن في دوائر حكومية أو محاكم أو مستشفيات أو مدارس بناتهن - من اختيار قيادة السيارة بدلاً من اضطرارهن إلى الذهاب برفقة سائق أجنبي، إنما يشير إلى أن جلب المصلحة من قيادة السيارة أقرب لأن يدرأ مفسدة أكبر من المفسدة المظنونة (المتخيّلة) - لا سيّما أن الأغلبية العظمى من نسائنا يتمسَّكن بتربيتهن العائلية والدينية.. كما أنه يمكن الحدّ من التحرش بالرقابة الصارمة وإصدار نظام لمكافحة التحرش.
الأمثلة السابقة لا تعني التهوين من قاعدة (درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح)، لكنّ هذه القاعدة الذهبية ليست مطلقة، بل ينبغي أن توزن بميزان الذهب - أي العقل.. فقد يتبيّن عندئذ أن في تقديم بعض المصالح دفعاً لمفسدة أكبر من المفسدة المظنونة.