محمد آل الشيخ
ماذا لو قام رجل عاش في القرن التاسع عشر الميلادي من قبره، ورأى ما توصل إليه العلم الحديث والعالم المعاصر من ابتكارات ومكتشفات ومنجزات في مختلف المجالات التي تخدم الإنسان ورفاهيته وزيادة وعيه بعد اطلاعه على جزء كبير من حقائق وأسرار الكون الذي يعيش فيه، وفك كثيراً من طلاسمه وغموضه؛ فهل تراه سيصدق ما تراه عيناه؟.. أجزم أنه سيعتبر هذه المنجزات ضربا من ضروب السحر، وربما التدجيل والخرافات، أو أن ما يراه أمام عينيه ليس العالم الذي يعرفه، ولا الإنسان الذي كان يتعامل معه، وإنما هو عالم آخر، وكائن وكون لا علاقة له به، ولا ارتباط له بمنطقه ومكتشفاته ونواميسه وما توصل إليه.
وكنت دائما ما أُطلق العنان لخيالي في محاولة لتوقع ما سوف يكون عليه العالم بعد مائة سنة وأسأل نفسي: هل ستكون وتيرة التطور والتقدم والمنجزات الإنسانية على نفس المنوال في القرن العشرين؛ أي هل سيتجه الخط البياني للتقدم الإنساني دائما إلى الأعلى، وإلى المزيد من الاكتشافات والاختراعات التي تُدخلُ ما كان في الماضي مستحيلا إلى دائرة الواقع والممكن والمقدور عليه؟
الإجابة ليست بالضرورة: نعم؛ كما أنها ليست بالضرورة: لا.
المتشائمون المتوجسون من مآلات المستقبل يقولون: إن الإنسان الذي سخر ما على سطح الأرض وما في جوفها لخدمته ورفاهيته، واطلع على كثير من أسرار كوكب الأرض وأثرى بها معرفته، وغزا الفضاء وتجول بين مكوناته فانتفخ غرورا بما أنجز وتوصل إليه، قد تنتهي به مخترعاته ومكتشفاته إلى نهاية الجنس البشري من على سطح الأرض تماما؛ أي الفناء البشري الكامل؛ فهناك -كما تقول الإحصاءات- آلاف الرؤوس النووية ووسائل نقلها العابرة للقارات، التي أصبحت من الكثرة والانتشار بين الدول، إلى درجة جعلتها خطرا حقيقيا على وجود الإنسان والإنسانية على الأرض؛ فلك أن تتصور لو اعتلى أحمقٌ، أو مريض نفسي، أو مؤدلج ويؤمن بالخرافات والأساطير، سدة الحكم في دولة تمتلك السلاح النووي، ثم قرر أن يستخدمه ضد أعدائه ومناوئيه، فهذا يعني أن قرار هذا المخبول ومن ثم تداعياته، سينقل العالم والإنسانية إلى الفناء التام. وهذا يظل احتمالا مستبعدا، إلا أن احتمالات حدوثه تزداد كلما ازداد عدد الدول التي تمتلك السلاح النووي أما المتفائلون، فيرون أن ما يُخبئه المستقبل الواعد يحفل بالكثير من المنجزات المُبشرة بغدٍ أفضل للإنسان والإنسانية؛ ويؤكدون أن الإرهاصات، وما يتسرب من المنشآت العلمية البحثية من أخبار، وما يصرح به العلماء في الدول المتقدمة، يُشير إلى ذلك.. ففي مجال الطب هناك كثير من الأمراض وكذلك الأوبئة التي تُعتبر اليوم مستعصية سيتم علاجها والشفا منها؛ وسيترتب على ذلك بالتالي زيادة معدلات عمر الإنسان عن ذي قبل، فقد كان متوسط عمر الفرد في القرن التاسع عشر الميلادي لا يتجاوز الخمسين سنة، وزاد في القرن العشرين إلى ستين سنة، ومن المتوقع أن يكون متوسط عمره مستقبلا يزيد على المائة سنة. كما أن التنقل والسفر سيصبح أسرع وأسهل وأرخص ثمنا بين قارات العالم ومدنها، فيكون -مثلاً- بإمكان الفرد أن يسكن في (نيويورك) ويعمل في (طوكيو) في اليابان ويعود في نهاية اليوم إلى نيويورك؛ بمعنى أن المكان لن يكون ذا قيمة كما هو عليه اليوم. كما أن تقنية الكمبيوتر والإنترنت وشبكة الاتصالات الفضائية ستدخل بشكل أوسع ومحوري إلى حياة الإنسان اليومية وقراراته، بحيث تكون من ضروريات الحياة. أما العُملة الورقية (البنكنوت) فستختفي أو تكاد إلا من الدول المتخلفة أو الأقل نمواً، وسوف تحل تقنية (البصمة) الإلكترونية الملحقة بشبكة المعلومات محل النقد في العمليات التجارية بين الأراد والمنشآت؛ فإذا أراد الفرد -مثلاً- أن يبتاع سلعة من محل تجاري، فما عليه إلا أن يضغط ببصمته على جهاز التحصيل عند الكاشير، ويتم تسجيل عملية الشراء، فيخصم الثمن من حساب المشتري البنكي ويُلحق بحساب البائع البنكي، وتنتهي عملية البيع. كما أن تقنية البصمة الإلكترونية ستقوم -أيضاً- مقام الهوية الشخصية، كما ستحل كذلك محل (جوازات السفر) التقليدية؛ فعند انتقال الفرد من دولة إلى دولة، يتم التعرف عليه، ومن يكون، وهل هو يحمل تأشيرة دخول إذا تطلب الأمر، أم لا، من خلال بصمة إصبعه؛ كما أن سجلك الطبي سيكون جاهزا لأي مركز طبي في كل أرجاء العالم بمجرد تخويل الفرد من خلال بصمته لهم بالاطلاع عليه. وهذا على أية حال غيض من فيض؛ وربما أن هناك من المخترعات ما لم تخطر بذهن بشر، سيشهدها إنسان المستقبل.
والسؤال: أين بنو يعرب (الأماجد) مما توصل إليه، وما سوف يتوصل إليه، الإنسان في المستقبل؟.. إنهم كما تقول الحقائق ويُثبت التاريخ المعاصر (متفرجون)؛ مثل من يتفرج على سباق للعربات، فتمر من أمامه، وليس في يديه إلا أن يُخرب مضمار مرورها إذا أراد، ولكن لا علاقة له بالسباق ومجرياته والمتنافسين فيه؛ أي يجلس القرفصاء على هامش الهامش في قاع الحضارة المعاصرة.
إلى اللقاء.