د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
كنت قد كتبت مقالاً ضمن سلسلة مقالات حول مكانة المريض في النظام الصحي في ضوء الشعار المرفوع (المريض أولاً). وناقش المقال هذه الأولوية من زاوية تحمّل تكلفة الرعاية الصحية التي تقدم لهذا المريض، بحيث لا تكون التكلفة عائقاً دون حصوله على الخدمة التي يحتاجها.
وقد تأسّس المقال على صدى المطالبات بتعميم التأمين الصحي على المواطنين، لأسباب تتركز حول مآخذ على الخدمات الصحية الحكومية وغلاء الأسعار في القطاع الصحي الخاص وعرضت خمسة نماذج معروفة للتأمين الصحي للمقارنة (الجزيرة في 18,17- 5 - 1435هـ).
في الواقع الراهن لنظامنا الصحي تُقدم الخدمات الصحية الحكومية للمواطنين بدون مقابل أي أن عائق التكلفة لا وجود له الآن، فالدولة تتحملها عن المريض. ولكن مع ذلك يوجد نموذجان من التأمين الصحي يطبقان بشكل محدود. الأول هو الضمان الصحي التعاوني -الصادر نظامه عام 1420هـ- وهو إلزامي لجميع العاملين بأجر في القطاع الخاص وأسرهم -مواطنين ووافدين- وتشمل منافعه الخدمات الأساسية في الكشف والعلاج (بما في ذلك التنويم والعمليات الجراحية والولادة)، إلا أن بعضها يتطلب موافقة شركة التأمين، وتنتهي التغطية ببلوغ سنّ الستّين. وشمل تطبيق هذا النموذج حتى الآن حوالي تسعة ملايين فرد (أي 30% من عموم السكان) وهم الذين يعملون لدى شركات ومؤسسات، ولم يشمل التطبيق بعدُ العمالة المنزلية وعمالة الأفراد. والنموذج الثاني هو التأمين الخاص (الاختياري) على مواطنين لحسابهم أو على موظفى مؤسسات تقدم التأمين لمنسوبيها، وأقساط هذا التأمين أغلى أما منافعه فأوسع. وفقاً لتقرير مجلس الضمان الصحي عن عام 2013 فإن الذين يتمتعون بتغطية تأمينية من المواطنين وأسرهم يبلغ عددهم 2.560.000 (الأكثرية العظمى ضمن التأمين الإلزامي)، أي ما يقارب 13% من السكان السعوديين البالغ عددعم عام 2013 حوالي 20 مليون نسمة. إذن 87% من المواطنين لا يشملهم أي غطاء تأميني وإنما يحصلون على خدمات صحية حكومية مجانية لا تطلب دفعاً مباشراً ولا بطاقة تأمين ومنافعها غير محدودة، باستثناء من آراد مراجعة القطاع الخاص والدفع المباشر. فلماذا يطالب جميع هؤلاء بتطبيق التأمين الصحي، كما هو واضح من المسوح العلمية والتحقيقات الصحفية وكتاب الصحف وكثير من المعقبين على المدوّنات العنكبية؟.. الإجابة على هذا السؤال بمعلومات غير محددة أو إجمالية مستقاةٍ من استطلاعات مسحية أو صحفية أو نحو ذلك لا تكفى، بل يجب الحصول على إجابات مفصلة، إما من خلال استبيان عيّنة تمثيلية كبيرة من المواطنين؛ وهو إجراء يحتاج لوقت طويل وعدد كبير من الباحثين، أو من خلال تنظيم حوار موسّع على شاكلة حوارات مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، يدعى له ممثلون لجميع شرائح المجتمع ويحضره أيضاً من يمثل مجلس الضمان الصحي والمجلس الصحي السعودي ومجلس الشورى وهيئة الخبراء، ويطرح خلاله موضوع واحد هو: أسباب المطالبة بالتأمين الصحي على الرغم من مجانية الخدمات الصحية الحكومية وانتشارها في المملكة، وماذا ينتظرهالمشاركون من إيجابيات التأمين الصحي أو مزاياه، وما هو تصورهم للكيفية التي يتم بها تغطية تكلفة التأمين.
وبذلك يمكن بلورة اتجاه موحد مبنيٍّ على مشاركة المجتمع؟.. الإجابة المفصلة على هذا السؤال الجوهري قبل قرار التطبيق سوف تمكّن أصحاب القرار من التعرف على تفضيلات شرائح المجتمع، ومن ثَمَّ على أفضل الخيارات وأكثرها ملاءمة لاحتياج المواطنين وأيسرها تطبيقاً.
وسيكون من الطبيعي توقع اختلاف في بيان الأسباب وأولويات الاحتياج، فالشرائح الاجتماعية التي تطالب بالتأمين مختلفة أيضاً من حيث الحجم ومستوى التعليم ومستوى الدخل، ومن حيث المهنة والجنس والعمر. المهم هو قياس درجات الاختلاف وحجم التفضيلات. وغنيّ عن البيان أن نتائج هذا الحوار -أو أي استبيان آخر- لا تعتبر مسودة مشروع لتطبيق التأمين الصحي، بل هي أساس لإعداد المشروع، ودليل يسترشد به في صياغته، بالإضافة للاستفادة من تجارب الدول الأخرى، وخاصة تلك الدول التي تشابه المملكة في جغرافيتها وتوزيع سكانها. إن أي مشروع نظام لتطبيق التأمين الصحي على المواطنين يجب أن يكون متكاملاً ومنسجماً مع الإستراتيجية الصحية العامة للمملكة التي سبق أن اعتمدها المقام السامى في رمضان عام 1430هـ، ونظام الضمان الصحي التعاوني االصادر عام 1420هـ، ومشتملاً على أسس تنظيم العلاقات التبادلية والتكامل في تطبيق النظام بين الجهات المقدمة للخدمات الصحية في المملكة، وآخذاً في الاعتبار رفع قدرة الخدمات الصحية على التجاوب والتفاعل مع ما يتطلبه تطبيق التأمين -بصرف النظر عن نوع التأمين المطَبّق- من تحديث أساليب إدارة تقديم الخدمة (الإدارة الذاتية أو بأسلوب القطاع الخاص)، وتمويلها (مبدأ فصل مقدم الخدمة عن ممولها أو مشتريها)، التمويل مقابل ما يُقدم من خدمات، أي الدفع المقيّد بنوع وحجم وجودة الخدمة (باعتبار وحدة الخدمة سلعة)، تطوير الإمكانيات البشرية والمادية والإجرائية في كل مرفق صحي بما يضمن رعاية جيدة وأداءً سلساً وتجاوباً مع المستفيدين (المراجعين).
خلاصة ذلك أن ما يتوقعه المطالبون بتطبيق التأمين الشامل على المواطنين من إيجابيات ومزايا لن يتحقق تلقائياً بمجرد تعميمه، وسيخيب ظنهم إن لم يرتبط بتحديث أساليب العمل وتحسين الإمكانيات في مرافق الخدمات الصحية. إن موضوع التأمين الصحي طال انتظار البتّ فيه، وقد آن أوان التحضير لاتخاذ القرار.