د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
سعدت -وأظن أني لست الوحيد- عندما قرأت ما نشرته بعض الصحف اليومية قبل عدة أسابيع عن توصّل استشاريين سعوديين في طب العيون هما دكتور صالح العبيدان ودكتور فيصل المبارك إلى ابتكار أنبوب للتصريف بقناة (شليم) تساعد على تجنّب مضاعفات عمليات الجلوكوما، وذلك بعد بحث استغرق ثلاث سنوات،
وأنهما سجلا براءة الاختراع بمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، ومصدر السعادة ينبع من عدة اعتبارات:
أولها: الابتكار في حد ذاته ونفعه للمرضى.
ثانيها: أنه بحث خالص لطبيبين سعوديين حصلا على الزمالة في طب العيون من جامعة الملك سعود.
ثالثها: إنتاج البحث بمركز علمي سعودي (مستشفى العيون بالجامعة نفسها)، مما يؤكد وجود البيئة العلمية التي تمكّن من إجراء مثل هذا البحث.
رابعها: أن الخبر في صياغته جاء حافلاً بالمعلومات التي تشبع فضول القارئ، وخالياً من إضفاء الهالة على الأشخاص أكثر من موضوع البحث، وموضوعياً بتوضيح أنه سيدخل المرحلة التجريبية.
هذا الاعتبار الأخير له أهميته في جميع ما ينشر من أخبار حول الأبحاث الجديدة والابتكارات؛ إذ يؤكد مصداقية الخبر وينزع الأوهام المتعلقة به، ويزرع في نفس القارئ الثقة بالباحث ونتيجة البحث - لاسيما حين يكون الموضوع طبياً يترتب عليه توقعات ذات بُعدٍ إنساني.
لعل القارئ يتذكر ما يرد كثيراً في الصحف من أخبار عن نتائج أبحاث أو ابتكار تقنيات طبية أو اكتشافات لعلاج الأمراض، لكنها غالباً غير مؤكدة وأحياناً متناقضة أو مبالغٌ فيها، فالصحف ليست مراجع علمية، وإنما هي تتلقّى الأخبار وتعيد صياغتها بما ترى أنه يثير اهتمام القارئ وبدون تدقيق. ولذلك يتحمّل مصدر الخبر - سواء كان الباحث أو المبتكر نفسه أو مؤسسة أكاديمية أو مجلة علمية - مسؤولية الأمانة العلمية في إبلاغ المعلومة المطلوب نشرها؛ فمن الأمانة أن تكون المعلومة صحيحة ودقيقة وغير مبتورة، هذه قاعدة معروفة بالضرورة، ولكن اختراقها قد يحدث على صور متفاوتة في خطورتها.
الصورة الأولى: وهي حالات متطرفة ومتعمَّدة من الخداع -وإن كانت نادرة- حين يدّعى باحث هشّ الضمير اكتشافه شيئاً جديداً من خلال بحث قام به، هو في الحقيقة اخترع البيانات وركّب النتائج من خياله - أي زوّر البحث، ولكن بمهارة يصعب معها كشف الخداع. مثال ذلك ما فعله أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة تيبورج الهولندية (ديدريك ستايل) قبل بضع سنوات، حين قام بتزوير بيانات بحث مهم حول تأثير المحيط الاجتماعي المضطرب على ظاهرة التصنيف النمطي والتمييز الشخصي، وأرسله للمجلة المرموقه (science)، ولكن مساعديه أبلغوا الجامعة عنه، وثبت بالتحقيق أنه دأب على التزوير منذ سنوات. وشبيهٌ بهذا التزوير ما قامت به شركة هندية لصالح شركة ألمانية للأدوية الجنسية (أي النسخة المرخصة من أدوية أصلية) من تزوير لنتائج دراسة التكافؤ الحيوي لنحو ثمانين مستحضراً، لإثبات فعاليتها وصلاحيتها للتسجيل والتداول. غير أن معهد اختبارات الدواء أوقف التداول بعد اكتشاف التزوير.
الصورة الثانية: أن ينشر بحث علمي رصين لفريق من العلماء في مجلة مرموقة، ويكون هذا البحث مموّلاً من شركة منتجة للأدوية أو الأجهزة الطبية، أو يكون الباحثون (كلهم أو بعضهم) على علاقة ما بالشركة، فيميل الباحثون -قصداً أو بغير قصد- إلى إبراز النتائج التي تكون في صالح المُنتَج. ولأن مثل هذه الأبحاث يمسّ سمعة المجلة ومصداقية البحث، تشترط المجلة أن يتعهد الباحثون بأنه لا يوجد تأثير مصلحي في إتمام البحث.
الصورة الثالثة: لعل القارئ يتذكر أن الصحف نشرت ضمن أخبارها -مؤخراً- ما صدر عن جامعة هارفارد حول نجاح باحثيها في علاج داء السكري بواسطة الخلايا الجذعية. وهذا أمر تتعلق به آمال الملايين من مرضى السكري في جميع أنحاء العالم. الخبر كان صحيحاً من حيث هو، لكن الإعلان عنه أو نشره كان متعجلاً، لأنه لا يعدو عن كونه تجارب أجريت على الفئران ولم تختبر على البشر. وهذا مثال على قيام مؤسسة علمية (جامعة أو معهد أبحاث) بتعميم بلاغ صحفي عن إنجازها العلمي على وسائل الإعلام، وهو لا يتطابق تماماً في صياغته مع نص البحث الذي قدّمه الباحثون بمؤتمر علمي أو للنشر في مجلة محكَّمَة أو لنيل براءة اختراع. مثل هذه البلاغات الصحفية خضعت مؤخراً لدراسة نشرتها المجلة الطبية البريطانية (BMJ)، فقارنت بين نحو خمسمائة بلاغ صحفي وما يقابلها من أخبار صحفية نشرت بناءً عليها من جهة، وبين ما يقابلها من نصوص الأبحاث المنشورة من جهة أخرى، وتبيّن للمجلة أنه على الرغم من سلامة الأبحاث المنشورة نفسها فإن البلاغات الصحفية التي يصدرها القسم المختص في الجامعة (أو المعهد) تتضمن مبالغات تتعلق إما بالتوصيات والنتائج المستنبطة من البحث أو بالعلاقات السببية للظاهرة المبحوثة، أو توحي بأن نتائج البحث على الحيوان يمكن تطبيقها على الإنسان. (تذكروا خبر إنتاج الأنسولين من الخلايا الجذعية المذكور آنفاً!) ووجد باحثو المجلة أنه كلما كان البلاغ الصحفي عن الإنجاز البحثي محتوياً لمبالغات، كثرت المبالغات في الأخبار التي تنشرها الصحف عنه؛ وتقلّ المبالغات الإخبارية عندما تكون البلاغات الصحفية دقيقة. هذا في الواقع هو ما نتمناه في أخبارنا الصحفية التي تنشر عن إنجازات وابتكارات علمائنا. وسواء كان الخبر عن تكريم لعالم باحث أو إشادة بإنجاز علمي معيّن أو عن ابتكار جديد، فينبغي عدم قصر الاهتمام على العالم في شخصه والثناء عليه أو التنويه بما حصل عليه من تكريم، بل ينبغي الاهتمام بماهية الإنجاز وأبعاده ودور الباحث (أو الباحثين) في هذا الإنجاز - إن كان مستقلاً أو مشاركاً لآخرين أو ضمن مشروع بحث للدكتوراه مثلاً. ذلك أن رسم الصورة الدقيقة عن الإنجازات العلمية تمنح المطّلعين على أخبارها الثقة والاعتزاز بهذه الإنجازات وأصحابها - وهذه مسؤولية الباحثين أو المؤسسة التي أُجْرِيَ البحث بها.