د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
أخبرتنا مصلحة الإحصاءات العامة من نتائج تقدير السكان لعام 1435هـ أن عدد سكان المملكة بلغ (30.770.375) نسمة، منهم (10.067.839) غير سعودي، يمثلون ثلث السكان. ولو عدنا إلى الوراء لوجدنا تصاعداً في نسبة غير السعوديين منذ عام 1394هـ، حيث بلغت آنذاك 11 %،
ثم زادت إلى 27% عام 1413هـ، وكذلك عام 1425هـ، وفي عام 1431هـ بلغت 31%، وأخيراً في عام 1435هـ 33%.
وبلغ معدل النمو السنوي لغير السعوديين (3.2%)، وهو أسرع من معدل نمو السعوديين السنوي البالغ (2.6%).
وأسباب ذلك النمو المتسارع لغير السعوديين ظاهرة ومعروفة، وتتمثل في كثافة استقدام العمالة لتنفيذ مشاريع الإنشاء والتشغيل، وتلبية الطلب المتزايد من الأسر السعودية على العمالة المنزلية والعمالة الحرفية كالرعاة والطهاة والزرّاع، والعمل تحت كفالة حرة بموجب مِنح استقدام.
وسوف يزداد معدل النمو لغير السعوديين بوتيرة أسرع مع استمرار التوسع في الخدمات والمشاريع الإنشائية، وزيادة الطلب من الأسر السعودية.
وليس بعيداً أن يصل العدد بعد عشر سنوات إلى نصف عدد السكان أو يتعدّاه. وغنيّ عن البيان أن هذا الوضع سيغيّرمن تركيبة السكان بالمملكة، من حيث الجنسية ونواحٍ أخرى مثل زيادة نسبة الذكور للإناث زيادة كبيرة لها أثرها السلبي على الأمن الاجتماعي والأخلاقي.
كما أن كثافة وجودهم وقلّة تكلفتهم تجعل من السهل تشغيلهم والركون إليهم في تسيير الأعمال اليومية، والتستّر على أن يمارسوا أعمال التجارة نيابة عن أصحابها - سواءً في التجارة أو الأعمال الفنية - مما يَفقِد بسببه أصحاب هذه الأعمال الخبرة في الإدارة والتسويق والممارسة.
ومن ناحية أخرى فإنه يزيد من البطالة الحقيقية والمقنّعة بين طالبى العمل من السعوديين.
الحقيقة لأن المؤهلين للعمل لا يجدون وظائف، حيث يفضل بعض أصحاب العمل العمالة الوافدة لأنها تعمل أكثر وتكلّف أقل.
والبطالة المقنعة لأن بعض أصحاب العمل يوظفون شباباً سعوديين إما صورياً أو في غير الوظائف المؤهلين لها، وذلك لكي يستوفوا نسب السعودة التي تلزمهم بها وزارة العمل.
ويمثّل هذا الوضع غير المتوازن في التركيبة السكانية عائقاً حضارياً، إن نحن تجاهلناه بقي مجتمعنا أضعف من أن يصنع حضارته بنفسه، لأنه غاص في حالة من الاسترخاء بفضل نعمة الاقتصاد الريعي التي وفّرها النفط، فصار متكئاً على سواعد الآخرين.
لا يتطلب تعديل الوضع وإزاحة العائق الحضاري شيئاً أكثر مما تضمنته الاستراتيجيات والخطط التنموية التي أعلنتها الدولة سوى إطلاق القوى الكامنة في المجتمع من عقالها:
- قوة العمل والإنتاج، بدلاً من الاتكال على قوى عاملة وافدة، تجيء ثم تذهب حاملة معها ما اكتسبته من خبرة ومعرفة، تاركة أصحاب العمل ينتظرون في كل مرة عمالة جديدة تواصل الإنتاج.
- قوة الإرادة والمبادرة الإيجابية، بدلاً من ركوب السهل بالتقليد والمزاحمة والاكتفاء بنسخ أفكار الغير واستقدام من يطبقها.
- قوة العلم والمنهج العقلاني الموضوعي، بدلاً من الاندفاع بالعاطفة أوبطلب النفع العاجل أو بتغليب الذات والتفرد بالرأي.
- قوة التسامح والانفتاح والانتماء الوطني، بدلاً من الارتهان للأفكار المسبقة والاحتماء بالمذهب أو القبيلة أو ما شابهها.
- قوة التمسك بالعقيدة الصحيحة والسير على جادّة الوسطية والاعتدال والإخلاص في العبادات والمعاملات، بدلاً من الغلوّ أو الاكتفاء بأداء حق الله على العباد وإهمال حق العباد على العباد - مع أنه حق مشروع.
هذه القوى يمكن أن تنطلق إذا توافر الوعي الجمعي بالآثار السلبية لحالة الاسترخاء تلك، والإدراك بضرورة إخراج قوى المجتمع من مكمنها من أجل صنع التقدم الحضاري.
ومثل هذا الوعي والإدراك إنما يتحقق بفعل التعليم والتنظيم. فلماذا التعليم؟
إذا كان هدف التعليم هو الخروج بشهادة ما، فهو موجّه بكامل مراحله لهذه الشهادة وما تتطلبه من معارف يستظهرها الطالب لوقت الامتحان، ثم ينسى معظمها. ويسري هذا على التعليم العام وعلى الجامعي كذلك، لأن طلاب الجامعة هم خريجو التعليم العام.
ولا تنحصر المشكلة في هدف التعليم بل تتعداه إلى المنهج المصمم على أساس استيعاب الطالب لكمية المعارف التي يقررها المصممون لنيل الشهادة المستهدفة - ولو عن طريق الحفظ والتلقين.
لذا يتخرج الطلاب بصورة نمطية رسمها المنهج ونفذها المعلمون.
إن الهدف الصحيح للتعليم هو بناء شخصية الإنسان وتنمية قدراته الذهنية والبدنية.
أما المنهج التعليمي الموصل لهذا الهدف فيجب أن يكون مختلفاً، ويوجه الطالب منذ بداية الدراسة إلى التعلُّم وليس مجرد التلقّي؛ وبذلك يكون التعليم تدريباً على التفكير والتعبير عما تم فهمه وعلى المهارات والمشاركات العملية، وعلى الإبداع والبحث وطرح الأسئلة والأجوبة.
وحيث إن التدريب يعني تجريب الممارسة لحين إتقانها، فإن حشو المنهج بمواد ومعارف لا تخدم بناء الإنسان المتمكّن المفكر وتنمية قدراته أمر يعيق هدف التعليم واستيعاب المواد بالفهم والتدريب - وقليل نافع خير من زيادة لا تنفع -.
في هذا النمط من التعليم لا يملك الجميع نفس القدرات، بل يتبيّن مَن يستطيع مواصلة التعليم إلى مستوياته العليا، ومن لا يستطيع فيتجه إلى مسارات أخرى - فنية وعملية - يوفرها التعليم المهني (ضمن التعليم العام أو عند جهات أخرى) في شراكة مع مؤسسات خدمية أو صناعية بالقطاع العام والخاص، حيث يتزودون بما يلزمهم للاندماج في الاتجاه المهني الذي يلائمهم، وهم واعون لمتطلبات هذا الاتجاه وما يؤول إليه، بهذا تتكون قاعدة عريضة من المؤهلين المدرَّبين القادرين على الحلول محل كثير من الفنيين والمهنيين الوافدين.
أما الذين يواصلون تعليمهم إلى المستوى الجامعي وما فوق الجامعي فسيكون لديهم الأساس العلمي والذهني الذي يؤهلهم للتخصص والبحث والإبداع وإرادة البناء.
ولماذا التنظيم أيضا؟ لأن التنظيم بمعناه العام يعني تنظيم حياة المجتمع المدنية، وتبصير أفراده وإرشادهم إلى سبل التعايش والتعاون والتعامل في الحياة العامة، من خلال الأنظمة القانونية ولوائحها وما ينبثق عنها من الإرشادات وأساليب الإدارة والتمويل والحوافز، والتأكيد على الالتزام بها.
وجود الأنظمة والعلم بها ونشرها عامل فعّال في إثارة وعي المجتمع بالقوى الكامنة فيه وضرورة إطلاقها لتقوم بدور البناء الحضاري، مستعينة بمخرجات التعليم.
ومن أمثلة ذلك إصدار الأنظمة الداعمة لتخصيص ميزانيات سخية لتدريب وتأهيل السعوديين ومنح الحوافز المجزية لمن يعمل وينتج منهم ولأصحاب العمل لإشغال وظائف حقيقية - لا وهمية، وتشجيع الاستثمار في المشاريع الإنتاجية ذات القيمة المضافة من خلال حوافز القروض وتسهيل الإجراءات وتفضيل المنتجات.
ومع أن هناك مؤسسات حكومية وأهلية تطبق مثل هذه التنظيمات، إلا أنها تحتاج الى دعم أكبر ومتابعة منهجية وتوجيه صارم نحو أهداف تنموية تسهم في تحقيق الرقي الحضاري - أي لا يكون الهدف النهائي للتوظيف أن تنخفض أرقام البطالة ظاهرياً.
هذه الأمثلة من الأنظمة ذات العلاقة بالعمل والإنتاج هي نموذج لغيرها من الأنظمة المؤثرة على إطلاق قوى المجتمع الأخرى.
لكن التطبيق يتطلب الجدّية والصرامة ونزع السلبيات البيروقراطية التي تعيق المبادرات والإبداع.