زكية إبراهيم الحجي
«نريدُ تعليماً أقل.. وتعلماً أكثر» عبارة أطلقها معالي الدكتور عزام الدخيل في المؤتمر الدولي الرابع للتعلم الإلكتروني الذي افتُتِح في الرياض مساء الاثنين الماضي.. هي عبارة بعيدة المرمى سامية الهدف.. وكأني به يشير إشارة ضمنية بأن التعلم من المهد إلى اللحد لم يعد مجردَ شعار نردده من حين لآخر.. بل توجه أساسي تفرضه مطالب الحياة في مجتمع بدأت تتسامى فيه المعرفة لتأخذ طريقها نحو منظومة الاقتصاد المعرفي برأس مالٍ بشري.
فعصر التعليم المغلق والمنغلق والمحدود مكاناً بالمدرسة وزماناً بمراحل العمر المبكرة ونطاقاً في مجالات التخصص الضيقة قد ولى نهائياً ليحل محله التعلم مدى الحياة وهو المَعْني «بالتعلم أكثر» بمعنى أن من حق أي فردٍ في المجتمع أن تتاح له فرص التعلم والتشبع من الزاد المعرفي والثقافي دون حدود للزمان والمكان للارتقاء بالسلم الاجتماعي والتغلب على آفات التعليم المحدود بالزمان والمكان.
فإذا كانت المعرفة هي محرك مجتمع المعرفة فالتعليم وقودها.. وإذا كانت التكنولوجيا هي المنظومة الجديدة في عصر يتميز بالانفجار المعلوماتي فإن التعلم أوسع بكثير من التعليم.. وما أعظم الفرق بين التعلم والتعليم.. فنحن البشر نولد بغريزة تعلمٍ فطرية ونكتسب لغتنا ومبادئ حياتنا بصورة عفوية طبيعية ولكن.. سرعان ما تأتي المدارس وتكبت غريزة التعلم لا التعليم.. هذه الغريزة التي زرعها الخالق في بني البشر، وبالتعلم يستطيع الإنسان أن يسترد هذه الغريزة الطبيعية وأن يجعل التعلم سمة إنسانية أصيلة تمنحه القدرة والحيوية على مواجهة مشاكله، فإذا كان لا بد لنا أن نصبوَ نحو مجتمع التعلم ومجتمع المعرفة الحق.. فلا بد أن يؤخذ التعلم بأقصى درجات الجدية.. فرحلةٌ صوب مجتمع التعلم رحلة محفوفة بالمخاطر تتطلب قدراً كبيراً من الحيطة والحذر والنظرة البعيدة بقدر ما تتطلب من عزم وجسارة وإقدام.. ولا سبيل لإحداث نقلة معلوماتية إلا في إعادة النظر في منظومة التعليم من أساسها.. والإدراك التام والواضح بأن التعلم تحت شعار «من المهد إلى اللحد» لا يعني مزيداً من المناهج والاختبارات والشهادات وكتب تُلقى في النفايات بل يعني وفي المقام الأول إنساناً متعلماً ويظل يتعلم في أي مكان وأي وقت حتى ولو كان على رأس العمل.. فالمعرفة مزيجٌ من التعلم والتعليم إلا أن الفجوة التي بينهما تكمن في أن التعلم بحر واسع لا ينضب.. ولا وجه مقارنة بينه وبين التعليم وليد آلات الطباعة الذي ينسخ كل طلاب المدارس والجامعات في طبعات متكررة كما تنسخ آلة الطباعة كتبها.
إن شعار «التعلم من المهد إلى اللحد» الذي كنا نردده في طفولتنا دون أن نرى له أثراً عملياً على واقعِ زمنٍ ولى.. هو اليوم شعار لمنظومة التعلم.. فبينما كانت الدراسة الجامعية بمثابة مرحلة التعليم النهائية أصبحت اليوم بداية لمسيرة تعلم على مدى عمر الإنسان.. وبذلك يصبح شعار «من المهد إلى اللحد» هو التعلم بحق نتيجة ما وفرته تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من فضاء تعلمي.. مدارس وفصول وقاعات بلا أسوار.. فرص متاحة للجميع وبمختلف الفئات العمرية والثقافية والمهنية لا يقيدها زمان ولا مكان.
النقلة النوعية من التعليم إلى التعلم تعني بالدرجة الأولى التمحور حول المتعلم.. بمعنى أن يكون المتعلم قادراً على التعلم الذاتي ومواصلة تعلمه طيلة حياته.. والتغلب على آفة التلقي السلبي وحفظ المنهج الدراسي من الألف إلى الياء وتسميعه ليُدَون في ورقة يستلم المتعلم بعدها ورقة الختام لمقعد التعليم.
إن النقلة من التعليم إلى التعلم هي ثورة وثروة بكل المقاييس.. ثورة مختلفة في عصر أُجهِضت فيه كل الثورات.. وثروة في عالم اقتصادي جديد ومختلف ألا وهو اقتصاد المعرفة الذي يكون للتطور المعرفي والإبداع العلمي الوزن الأكبر في نموه واستخدامه كمورد استثماري وسلعة استراتيجية ومصدر للدخل.. فشكراً لمعالي وزير التعليم على هذه العبارة المغايرة «نريد تعليماً أقل وتعلماً أكثر» ونتمنى تطبيقها على أرض الواقع فنحن في عصر التعلم لا التعليم وشعار هذا العصر التعلم من المهد إلى اللحد.