الثقافية - محمد هليل الرويلي:
حينما يجثم الثكل برمته على مرابضنا لا تعي لغة الحناجر غير صرخة الحداد تطلقها دونما هوادة في المدارات، غير راجية حتى رجع صداها، ولا يجتذب اللحظ إلا القواتم والدكن من كل شيء، وتغدو العوالم رغم صخبها المزعج مطبقة الهمود والسباتية. إن حمم الجنائزية حينما تبتلعنا ننسلخ من كل ألوان الفروح ولا نجيد غير حياكة خيوط الظلام وعزف اللحون السوداوية، التوغل في جسد الماضي ومحاولة بعث الحياة فيه وإبقائه واقعاً حقيقياً مملوساً، ربما لاستفحال الهستيريا دور في ولوجنا دوامة الاستعاضة الوهمية التي لا تُسمن ولا تُغني!.. الفقد أرض خصبة لتفاقم الندوب وعويل الاحتضار.. الفقد أداة حادة الفتك لا تُبقي ولا تذر على رباطة الصمود مهما اصطنعنا الفقد لغة شرسة دستورها القلع والدّك.. حينما تشهق أرواحنا بالفقد تتقازم كل الشواهق وتتهاوى الفقد سكينة الانشطار الروحي والجروح المثعوبة العصية على الخثران!.. وبرغم كل شيء وقف البشري إسماعيل للعالم كله كلمة، فتذكّروا ماذا يقول؟!
في البداية ولكي نتعرف على خلفيتكم الثقافية د. إسماعيل، فإن المخزون الثقافي لديكم يعود إلى عهد الصبا، حيث تبادل الدور بين الوالدين والقرية.. حدّثنا عن ومضات ومنعطفات أشعلت هذا الفتيل؟
- أشكرك أخي محمد، وأشكر صحيفة الجزيرة ممثّلة بالمجلة الثقافية على إتاحة هذه الفرصة للحديث والنقاش الذي أتمنى أن يكون فيه بعض الفائدة للقارئ الكريم.
ولدت في أسرة تمازجت فيها معطيات قبلية وحياتية وفكرية متعددة، أسرتي معروفة بالتجارة، ووالدي وأخي الأكبر كانا من أكبر تجار المنطقة في حينه حينما كانت الثروة تحسب بآلاف الريالات، وكان لذلك أثر كبير في نفسي، حيث درّبني والدي ورباني على الثقة بالنفس والجدية، ولن أبالغ حينما أقول إنني وفي سن العاشرة كنت محل الثقة الكاملة بإدارة محل الوالد أثناء غيابه بيعاً وشراءً وضبطاًً وإدارة، أما التأثير الفكري فجاء من خلال ما كان يدور في المجالس في فترة مبكرة من حياتي، حيث كنت وخلال المرحلة الابتدائية ألتهم ما يقع تحت يدي من كتب، وأقرأ معظمها وبخاصة القصصية منها، بل كنت في السنة الثالثة والرابعة الابتدائية أقرأ على والدي قصص عنترة وسيف بن ذي يزن وألف ليلة وليلة... إلخ، ولكن أكثر ما كان يشدني هو تلك الحوارات التي أسمعها عن الصراع مع اليهود، وخُطب عبد الناصر، وهزيمة 1967م، والصراع بين الملك فيصل وعبد الناصر، حيث عشت فترة الهجوم المصري على مدن الجنوب (أبها، وخميس مشيط، وجازان) وضربها بالقنابل، عام 1963م، وأنا في سن الخامسة من عمري ورأيت ما نتج عن ذلك من خوف ورعب ودمار.. ولذلك فقد كنت أصغي بعدها باهتمام إلى ما يدور في مجالس الوالد من نقاشات وحوارات بينه وبين معاصريه وبخاصة المجاورين له في المحلات التجارية.. وقد كنت مغرماً بالقراءة في المرحلة المتوسطة والثانوية، فقرأت كثيراً من الروايات والكتب والمجلات، قرأت لطه حسين، والمنفلوطي، والرافعي، وجرجي زيدان، وعلي الطنطاوي، والغزالي، وأحمد أمين وغيرهم.. وحينما وصلت المرحلة النهائية من المرحلة الجامعية وبحكم توجه الأسرة المتديّن انغمست في قراءة الكتب الإسلامية والتي كانت تعرض وبشكل كبير في معارض الكتاب وبخاصة الكتب التاريخية والفكرية.. ولذلك فقد تمازجت كل تلك المعطيات لتتبلور في توجهي العلمي والثقافي، فقد غردت خارج سرب العائلة التي أغلب أفرادها يعملون في التجارة، وكانت هناك محاولات لجذبي إلى ميدانها، ولكني تمردت على كل ذلك وانطلقت نحو فضاء البحث والقراءة وإكمال الدراسات العليا، والانخراط بعد ذلك في حبي الأبدي وهو العمل في الجامعات.
من خلال تتبع مسيرتك العملية، نجدها ممتلئة بالإبداع الإداري، الإنجازات والإنتاجية، منذ متى كانت البداية؟.. ومن أهم الشخصيات التي كان لها أثر فيك؟
- كانت البداية مبكرة جداً حيث عملت في فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في أبها، وكان ذلك في بداية تأسيس ذلك الفرع وتوسعه الإداري والأكاديمي.. ولذلك فقد كنت أول مدير للمكتبة المركزية.. واجتهدت في تطويرها بدعم من عميد شؤون المكتبات في ذلك الحين أ.د زاهر الألمعي، ثم كنت أول مدير للشؤون الإدارية والمالية بالفرع، وساعدني ذلك على التعرف على الأنظمة واللوائح، وكان أول قرار تعيين يصدر لموظف بعد تأسيس الفرع بتوقيعي، وهذه المسؤوليات الكبيرة على رغم حداثة سني زادتني رغبة في تطوير ذاتي، ومن ثم تطوير الجهاز الذي أعمل فيه، ولكن المنعطف الأساس في تلك المسيرة كان بتعييني وكيلاً ثم عميداً لكلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية عام 1410-1415هـ.. فقد كنت صغيراً في السن بشكل نسبي إلى العمداء الذين كانت ترشحهم جامعة الإمام، فقد كان عمري في ذلك الوقت حوالي 32 عاماً في الوقت الذي كان معظم المسؤولين فوق الخامسة والأربعين، وقد أدى ذلك إلى شعوري بالمزيد من الثقة والرغبة في التميز والإنجاز، حيث لم تشغلني الإدارة عن البحث العلمي والترقي الأكاديمي.. فقد ترقيت إلى رتبة أستاذ مشارك ثم أستاذ في فترة قياسية جداً، وهي عشر سنوات من الحصول على الدكتوراه، مما جعلني من أصغر حاملي درجة أستاذ في الجامعة في حينه إن لم أكن الأصغر.. وحصلت مرة ثانية على جائزة أبها في المجال الثقافي عن تحقيق كتاب (حدائق الزهر في ذكرى الأشياخ أعيان الدهر) لمؤلفه الحسن بن أحمد عاكش الضمدي.. أما أبرز من كان له أثر في مسيرتي التعليمية والعملية، فأقول وبدون تردد: والدتي - يرحمها الله -.. فقد شجعتني وربتني على قبول التحدي والإنجاز، وهي امرأة مميزة أيضاً ومعروفة بكفاحها وكرمها وتضحيتها على مستوى المنطقة، فقد حصلت على جائزة الأم المثالية من صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل عام 1417هـ.
أما التأثير الإداري فقد كان لعدد من الشخصيات، أبرزهم صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، حيث عملت معه أميناً عاماً لجائزة أبها للتعليم الجامعي المقدمة من سموه لمدة أحد عشر عاماً، عملت خلالها مع سموه واستفدت من توجيهاته وآرائه وحزمه، وكذلك معالي مدير جامعة الإمام الأسبق د. عبد الله التركي، وفضيلة الدكتور عبد الله المصلح مدير إدارة فرع جامعة الإمام بالجنوب سابقاً، والشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة الذي يُعد مدرسة في القيادة والإدارة والتواضع وعمق الثقافة والفكر، والأستاذ عبد الله الناصر عضو مجلس الشورى والملحق الثقافي ببريطانيا خلال فترة دراستي، وغيرهم كثير.
لو أردت من معاليكم تحديد أبرز وأهم مرحلة شعرت فيها بأنك حققت إنجازاً مميزاً؟
- كل مرحلة لها تحدياتها خصوصاً خلال حرب الخليج، وتحديات التموجات الفكرية والثقافية التي انبثقت عنها، وانعكاساتها على الشباب والجامعات، وهذه الفترة تحتاج مني إلى كتابة متأنية وراصدة لتلك التحولات، وفترة وكالة جامعة الملك خالد كانت لها تحدياتها، ولكني أعتز بأهم منجز خلال تلك الفترة وهو الانتهاء من وضع المرجع التصميمي للمدينة الجامعية بالفرعاء، وتوقيع عدد من العقود للبدء بالعمل فيها، أما أهم مرحلة وأجملها فهي العمل مديراً لجامعة الشارقة فيما بين عامي 2003-2008م حيث تختلف أنظمة العمل، المنهجية الإدارية فيها عن أنظمة التعليم العالي في المملكة مما لا مجال للحديث عنه هنا، ولكنه كان سبباً للتميز في الأداء وذلك بالانتقال بالجامعة خطوات متقدمة في المجال الأكاديمي، والبحث العلمي، والتوسع في فتح الكليات والفروع، ويكفي أن الجامعة استطاعت أن تنافس في مجال البحث العلمي وتحصل على تسع ميداليات ذهبية وفضية وبرونزية وبراءات الاختراع في معرض جنيف الدولي في العام الثالث من استلامي للعمل فيها وإدارتها، ثم تسجيل ثماني براءات أخرى في العام الذي يليه، هذا وهي جامعة ناشئة لم يتجاوز عمرها السبع سنوات، ولذلك فقد كان رد الفعل لدى حاكم الشارقة إيجابياً بأن يمنحني مفتاح الشارقة الذهبي الذي لم يمنح قبلي إلا لتسع شخصيات عالمية خلال ثلاثين عاماً.
هل هناك منهجية عند البشري في إدارة الجامعات؟.. وإلى أي مدى استطاعت جامعة الجوف أن تصنع أرضية لنفسها؟.. وما هو الحلم المستقبلي للبشري في جامعة الجوف؟
- إدارة الجامعات عملية معقدة وسهلة في نفس الوقت، معقدة لكونها تتمازج فيها معطيات عديدة في آن واحد، فهناك مدخلات ومخرجات وعمليات متعددة الاتجاهات والأهداف، وتتطلب مراجعة دائمة وتطويراً ومتابعة على المستوى المحلي والعالمي، وسهلة لأنها تتم من خلال أدوات حوكمة واضحة داخل الأقسام العلمية والكليات والإدارات ذات العلاقة، ولا يمكنني أن أنسب إلى نفسي منهجية خاصة في الإدارة، فالأنماط الإدارية المتبعة معروفة لدى الكثيرين، ولكنني ومن خلال التجربة المتواصلة مؤمن بأن ما يعرف بمنهجية الإدارة على المكشوف أو الإدارة المشتركة هي الأفضل، وهي منهجية بسيطة وغير معقدة فحواها إطلاق الطاقات وتوضيح الاختصاصات وبث روح المشاركة في تحقيق الأهداف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.. وهو ما يعني الوصول إلى الأهداف بشكل جماعي بحيث يدرك كل مسؤول في الجامعة بأنه شريك في الإنجازات والتطوير، فهناك رؤية ورسالة الجامعة واضحة للعيان، وأهداف خاصة عامة مكتوبة ومقررة، والجميع على تعدد مستوياتهم الإدارية والتنفيذية مسؤولون عن الوصول إلى الهدف المنشود، ولذلك فأنا أحرص دائماً على توضيح الصلاحيات والاختصاصات والمرجعيات الهيكلية، ومن ثم إطلاق الطاقات، وشحذ الهمم واستنهاض روح الولاء والانتماء للجامعة، وأهتم كثيراً بتوضيح قواعد العمل والوصف الوظيفي، وبث معاني الإنجاز في نفوس العاملين، وحثهم على معرفة حجم التحدي المستقبلي.. ويأتي بعد ذلك التركيز على مؤشرات الأداء لمعرفة مدى تقدم الجامعة وإنجازاتها المطلوبة، أود الإضافة بأن الطريق أمام الجامعات ليس مفروشاً بالزهور والورود، فهي تحتاج إلى جهود جبارة ومزيد من الصلاحيات والحرية في اتخاذ القرارات المصيرية من خلال آليات ديناميكية وفعّالة، فالعمليات التعليمية والأكاديمية والبحثية تحتاج إلى قرارات قوية وسريعة قد لا تتيحها بها بعض الأنظمة التي تقيد انطلاقة الجامعات نحو المستقبل المنشود.
أما سؤالك عن جامعة الجوف ومدى قدرتها على أن تضع لنفسها أرضية تنطلق منها لتحقيق أهدافها، فأستطيع القول وبدون محاباة بأن هذه الجامعة تسير - ولله الحمد - بخطى ثابتة رغم التحديات والصعوبات الكبرى، فقد استكملت بنيتها التحتية في المجال الأكاديمي والإداري، وهي تستكمل بنيتها التحتية في مجال المشاريع والمدينة الجامعية والفروع، واستكملت هياكلها التنظيمية أكاديمياً وإدارياً، وهي في طريقها لتحقيق مفاهيم الجودة والاعتماد الأكاديمي بالتعاون مع أرقى الجامعات العالمية.
أما الحلم المستقبلي لي في جامعة الجوف، فهو أن أرى أبناء وبنات المنطقة المبتعثين إلى أرقى الجامعات العالمية وهم ينقلون تجربة العالم المتقدم الأكاديمية والبحثية إلى منطقة الجوف، وأن أرى أبناء وبنات جامعة الجوف من أطباء ومهندسين ومفكرين ومثقفين يقومون بواجبهم الوطني لقيادة دفة التنمية الحضرية في المنطقة.. وحلم آخر لا يقل أهمية وهو نجاح الجامعة في مشاريعها البحثية، وبخاصة من خلال مركز أبحاث الزيتون، وما يمثله ذلك النجاح من نقلة نوعية لزراعة الزيتون في المنطقة، بحيث تتمكن الجامعة من تحويل هذه الزراعة إلى مصدر غذائي وصناعي تقوم عليه عشرات المصانع والمتاجر بما يكفل لأبناء وبنات المنطقة مجالات شتى للعمل والإنتاج.
بإيجاز دكتور إسماعيل، وعلى عجل: ماذا قدمت الجامعة للمجتمع من الناحية الثقافية يُضاف إلى رصيدها التواصلي مع البيئة المحيطة؟
- أنت تقول بإيجاز: أستطيع أن ألخص دور الجامعة في التأثير المجتمعي من الناحية الثقافية في خلق بيئة أكاديمية تعليمية ثقافية مميزة، فالحراك العلمي داخل الجامعة لأبناء وبنات منطقة الجوف سوف يكون له دوره التحويلي في بنية المجتمع، فهناك حوالي 28.000 طالب وطالبة وحوالي 1400عضو هيئة تدريس ومحاضر ومعيد، وكلهم يتحركون في مجالات القراءة والبحث والنقاش العلمي والثقافي.. وهناك أكثر من 400 مبتعث ومبتعثة، وسيزيدون إلى الضعف خلال الخمس السنوات القادمة - بإذن الله -، وسوف يتدرجون في طلب العلم في أرقى الجامعات العالمية ويعودون بدرجة الدكتوراه.. فلك أن تتخيّل مدينة سكاكا وطبرجل والقريات بعد خمس أو ست سنوات وفيها مئات حاملي درجة الماجستير والدكتوراه من أبنائها وبناتها، ومن أرقى الجامعات العالمية، الأمريكية والكندية والبريطانية والأسترالية، وسوف يستمر هذا التأثير ليصل إلى الآلاف.. وتقوم الجامعة بدور هام في عقد الندوات والمؤتمرات.. وورش العمل التي تستهدف بها المجتمع المحلي، ولكن تأثير الجامعات في البنية الثقافية يحتاج إلى وقت، والتحولات الثقافية والاجتماعية دائماً ما يكون تأثيرها التغييري والتحويلي بطيئاً ولكنه ملموس.
سعى رمز النهضة ورائد الإصلاح والتنوير في المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز - يرحمه الله - إلى تفعيل دور المرأة في المجتمع، ومنحها الثقة في توظيف قدراتها، فهل ساهمت الجامعة في تهيئة فضاء رحب ومعزز لدور المرأة في منطقة الجوف؟
- ديننا الحنيف يُؤكد على دور المرأة التنموي.. وليس هنا مجال سرد الأدلة على ذلك.. فالمرأة نصف المجتمع ولها دورها في بناء النهضة وتعزيز التنمية.. ولذلك فإن الملك عبد العزيز - يرحمه الله - كان مدركًا تمام الإدراك لدورها، وهو كثيراً ما يعتز بها بقوله: «أنا أخو نورة وقد هيأ لها سبل التعليم والارتقاء الفكري والثقافي من خلال المدارس والمعاهد والجامعات والدراسة داخل المملكة وخارجها.. وجامعة الجوف تسير وفق هذه الرؤية التي يؤكدها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - يحفظه الله - في تهيئة كل السبل للمرأة السعودية لإكمال مسيرتها العلمية داخل المملكة وخارجها، وقد سعت جامعة الجوف إلى فتح جميع التخصصات العلمية والتطبيقية والنظرية للطالبات أسوة بالطلاب، ولم تقتصر على سكاكا فقط، بل هيأتها في طبرجل والقريات، حيث ستستمر مسيرة التوسع في التخصصات للمرأة وفق خطة مدروسة وممنهجة، ولدينا حالياً مئات المعيدات والمحاضرات اللاتي يواصلن تعليمهن داخل المملكة وخارجها في شتى التخصصات.. وسيكون لهن أثر واضح بعد إتمام الدراسة والعودة للانخراط في العملية الأكاديمية والبحثية - بإذن الله -، وحرصاً من الجامعة على المرأة بشكل عام في منطقة الجوف، فقد قامت بتأسيس كرسي الأميرة سارة لدراسات تحديات المرأة في منطقة الجوف، وتم وضع الخطة الإستراتيجية لهذا الكرسي، حيث سيكون رافداً مهماً من خلال الأبحاث والدراسات والدورات التدريبية والمحاضرات التثقيفية والتوعوية للمرأة الجوفية - بإذن الله -.
نحن نعلم بأن الفكر لا يُقارع إلا بفكر وأدلة دامغة تدحض أسسه.. فما دور الجامعة في عملية توعية المجتمع حيال التطرف والغلو الذي بات معضلة شائكة تهدد الوطن؟
- هذا صحيح، فالفكر لا يُقارع إلا بفكر، والدليل بالدليل، وجامعة الجوف حريصة كل الحرص على طلابها وطالباتها من تسلل الأفكار المتطرفة والمنحرفة إليهم، أو التشكيك في عقائدهم وقيادتهم ومسيرة وطنهم، ولم ترصد الجامعة حالات مخالفة للمنهج الوسطي مما يستدعي إجراءات محددة، فمناهج الجامعة الدراسية في الكليات وضعت بطريقة مدروسة وموثوقة بعيدة عن أي اتجاه يؤدي إلى التطرف، وتسعى الجامعة إلى عقد المحاضرات والندوات والمؤتمرات التي تؤكد المنهج الوسطي لديننا الحنيف، وترفد جوانب الاعتدال وحب الوطن والدفاع عنه، والتركيز دائماً على مجالات البحث العلمي الجاد والبعد عن مجالات التحزب والتطرف، ولعل آخر نشاط قامت به الجامعة في هذا الجانب هو (مؤتمر الوحدة الوطنية ودورها في ترسيخ الأمن) وتأسيس كرسي الأمير متعب بن عبد الله لأبحاث الوحدة الوطنية.
هل هناك تعاون بين جامعة الجوف والمؤسسة الصحفية، خصوصاً فيما يتعلق بفتح قسم صحافة وإعلام، وإيجاد جسر تواصل بين الجامعة والجسم الصحافي؟
- طبعاً وبالتأكيد، التعاون قائم بين الجامعة والمؤسسات الصحفية من خلال مراسليها ومكاتبها في منطقة الجوف، وكثيراً ما تدعوهم الجامعة من خلال مناسباتها المتعددة أو إرسال التغطيات الإعلانية لمناشط الجامعة إليهم لنشرها، بل إننا في ندوة الجامعة وتنمية المجتمع العام الماضي وضعنا محوراً خاصاً بالعلاقة بين الجامعة والصحافة والإعلام، أما ما يتعلق بفتح قسم للصحافة والإعلام فكما تعلم أن فتح الأقسام الأكاديمية يخضع لمعايير كثيرة من أهمها الحاجة في سوق العمل، ولو وجدت الجامعة أن هناك احتياجاً لفتح هذا القسم فلن نتردد في ذلك.. أما إيجاد جسر للتواصل بين الجامعة والوسط الصحافي فالجسر موجود والحمد لله، ولا يوجد هناك أي حواجز لمنع التواصل ونحن في الجامعة ننادي ومن خلال صحيفتكم الغراء بأننا على استعداد لتلقي أي مقترحات تعزز هذا التعاون وتزيده قوة ومتانة لخدمة وطننا الغالي وجامعتنا الفتية.
د. إسماعيل: لك تجارب إبداعية ممتازة في كتابة الشعر ألا تخشى على نفسك خوض غمار مشروع من هذا النوع وأنت شخص إداري وقيادي؟
- أحسنت باستخدامك مفهوم التجربة، فالتجربة الشعرية كما هو معروف عبارة عن موقف نفسي عاطفي يمر به الإنسان بحيث يسيطر على وجدانه فيقوم بصياغته في قالب شعري، وهذه التجربة حينما تكون ذاتية فإنها تكون أكثر تعبيراً عن الوجدان والشعور، ولكنها كما قلنا: تجربة، فأنا أعترف بأنني لست بشاعر، ولا أحب أن يطلق علي هذا اللفظ لأني فعلاً لست بشاعر، وما أكتبه لا يجتاز المحاولات الإخوانية أو العائلية أو التعبيرية في مواقف محددة أجد في نفسي الرغبة في أن أكتبها، ولعلي أكثر إجادة في محاولاتي كتابة شعر التفعيلة، وأتفق معك في أنني إداري أما قيادي فأتركها لك وللقراء الكرام.
تُذكِّرنا مأساة البشري الذي فقدَ خمسة من أولاده في حادث سيارة أمام عينيه بمحنة أبو ذؤيب الهذلي الذي فقدَ خمسة من أولاده في عام بسبب مرض الطاعون، فبينهما تشابه كبير، فكلاهما قد أطلق قوافل آهات تسير دون هوادة، تلقف ما غصت به الحناجر، وتلعثمت به الألسن، فيقول أبو ذؤيب:
أَودى بَنِيَّ وَأَعقَبوني غُصَّةً
بَعدَ الرُقادِ وَعَبرَةً لا تُقلِعُ
ويقول البشري:
يا راحلين وفي قلبي محبتكم
قلبي تشظى فويلي من شظاياه
ويقول أبو ذؤيب:
فَالعَينُ بَعدَهُمُ كَأَنَّ حِداقَها
سُمِلَت بشَوكٍ فَهِيَ عورٌ تَدمَعُ
ويقول البشري:
في كل زاوية ألقى خيالكم
في كل ثانية للدمع مجراه
وهنا يتشكَّل ابن الرومي معهما في تجسيد غوران الفرح عندما فقدَ ابنه أيضاً فيقول:
ثَكلتُ سُرُوري كُلُّه إذْ ثَكلتُهُ
وأصبحتُ في لذَّاتِ عيشي أَخا زُهدِ
وفي قصيدة البشري:
في فقدكم غار معنى الأنس منكسراً
والسعد يندب مخذولاً مطاياه
هذه المعاناة تعتلي أوجهاً في صرخات أهل الخطوب وتتصدر بكارة الأرواح، هنا تكون المعاناة أكثر صراحة يا دكتور إسماعيل، فهل خثرت حيوية الروح الحقيقية لدى القلب المفطور أم دورة الزمن كفيلة برتق الندوب ودفق الآلام مهما تجددت؟
- كسرت ظهري يا أخ محمد بمقارنتي بأبي ذؤيب وابن الرومي، أين أنا من هؤلاء، يا أخي ما أكتبه لا يعدو كونه كما ذكرت سابقاً تجربة شعرية محدودة، ويا ليت لدي من موهبة الشعر ما أصل به إلى معشار ما لدى هذين العملاقين في عالم الشعر.. أما أن تخثر المعاناة وتدفق الآلام فهذا لن يكون، لأن إيماني بالله جل وعلا وما أنزله علي وعلى عائلتي من السكينة والرضا بالقضاء هو ما يجعل المصاب محتملاًً والآلام والأحزان مكبوتة، رجاء ما لدى مولانا وخالقنا جل في علاه، فالآلام تتجدد، وإليك بعضاً مما كتبت مؤخراً:
تمر الذكريات برغم أنفي
وتسلب عقلي الذكرى المهوله
أمني النفس بالسلوى لعلي
أعيش هنيهة خالي المخيله
فتأسرني من الماضي طيوف
وأوجاع وأحوال جليله
ليالي العاشقين تمر عجلى
وليلي سرمد صعب رحيله
أقلب في دجى ليلي همومي
وأمسح دمعي الهامي نزوله
وتجفوني جفوني من شجوني
فلا نوم يجيْ ولا مثيله
تراني ضاحكاً ويظن صحبي
بأني قد سررت بما نقوله
وأني قد سلوت ضنّ فؤادي
وأن القلب قد أخفى عويله
وما في علمهم أني جواد
كتوم للأسى حر الفصيله
- رغم فداحة الخطب واستفحال شظاياه، إلا أن الصبر المنبثق عن الرضا بات سمة بارزة نقرأها في مرثيتك:
معالم الحق ديناً فارتضيناه
كتبت في اللوح آجالاً لنا رقمت
أرجوك رباه صبراً أنت معتمدي
ومنك يا رب نرجو كل مكرمة
- ما سر هذا الصبر اللدني على النفس رغم استلاب ألق حيويتها وتفتيت حشاشتها «الأولاد» زينة الحياة الدنيا؟
كلنا نردد كل يوم قوله تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}.
فهل كان فرض ترديدها كل يوم في صلاتنا سبع عشرة مرة على الأقل قد جاء من فراغ، إنها الإرادة الإلهية لنا بأن نحمده سبحانه دائماً فهو الرحمن الرحيم، لم أتوقع أن يكون اللطف الرباني، والكرم الإلهي، بي وبعائلتي ونحن نرى مصرع أولادنا أمام أعيننا في حادث مريع كما كان في ذلك المساء المترع بالحزن واليقين، كانت صدمة ولكننا تحملناها بصعوبة وتجاوزناها برحمة وفضل من الله، فالله ينزل البلاء ومعه اللطف والعطاء، فمن تصبّر، ربط على قلبه وجاهد حزنه كان له من الله العون والتيسير والربط على القلب.. ووالله إنني في ثاني ليلة من ذلك الحادث قد نمت وكأن شيئاً لم يكن، ولم أعرف سر ذلك، بل في أول أيام العزاء وبعد انصراف الناس في المساء، دخلت على أهل بيتي وبناتي وقرابتي فجلست معهم مواسياً وواعظاً ومبيناً لهم عظيم الأجر على الصبر، وكانوا ينظرون إلي مدهوشين مما يرون من صبري واحتسابي، وصاروا بعد ذلك يقولون: لولا مارأيناه من تجلُّدك وصبرك لكان لنا وضع آخر.. فكان ذاك من أعظم الكرامات والعطاءات من الله سبحانه وتعالى في أحلك الأوقات وأصعبها.. ولا أقول إنني لم أحزن أو أتألم، لا، فالحزن موجود كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن وإننا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون».. فالحمد لله على ما أعطى، والحمد لله على ما أخذ، والحمد لله على ما أبقى، فهو إن أخذ بعض أولادي فقد أبقى لي بعضهم كرماً منه سبحانه وفضلاً منه.
** ** **
الدكتور إسماعيل بن محمد البشري المدير الثاني لجامعة الجوف، تخرج عام 1399هـ في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ثم حصل على شهادة الماجستير من جامعة الأزهر عام 1403هـ بتقدير ممتاز، وأنهى دراسة الدكتوراه في جامعة درهم (durham) في بريطانيا عام 1408 هـ، وكان خلال دراسته رئيساً لأندية الطلاب السعوديين.
- وبعد عودته من بريطانيا تقلّد المناصب التالية:
- وكيل كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية من عام 1410 إلى عام 1412هـ.
- عميد كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية من عام 1412إلى عام 1415هـ.
- عُيّن أول وكيل لجامعة الملك خالد عام 1419هـ،
- عمل مديراً لجامعة الشارقة لمدة خمس سنوات للفترة من 2003-2008م.
- عُيّن عضواً في مجلس الشورى في عام 1430هـ.
- صدر الأمر السامي الكريم بتعيينه مديراً لجامعة الجوف، ولا يزال يمارس عمله هذا حتى تاريخه.