ولم يكن التنظير لإلغاء فضيلة العرب الوسيلة الوحيدة التي انطلق منها (الشعوبيون) في ترسيخ تعصبهم ضد الإسلام، بل قاموا أيضاً بجهودٍ أخرى في سبيل ذلك، تجلَّى بعضها في تصنيف المؤلفات التي تتضمَّن هجاء للعرب، وسرداً لمثالبهم، وحطَّاً من شأنهم، وفي المقابل حرصت هذه المؤلفات وغيرها على الرفع من منزلة الأعاجم، وبيان فضائلهم، وتزيين أفعالهم.
والناظر في كتب التاريخ والتراجم يلحظ عدداً من المؤلفين الذين كان لهم جهودٌ في دعم هذا التوجه، أمثال أبي عبيدة معمر بن المثنى الذي يعدُّ من أبرز علماء النحو والأخبار، حيث كان أصله من يهود فارس، وقد ألَّف كتباً كثيرة تعرَّض فيها للعرب، ككتاب (لصوص العرب) وكتاب (أدعياء العرب) وأيضاً (فضائل الفرس)، وكلها تصانيف تدعم حركة الشعوبية، وتعزز من قوتها، وتظهر حقدها على العرب وحسدها لهم.
وقد كان لبعض العلماء جهودٌ في الدفاع عن الإسلام والعرب، حيث وقفوا في وجه هذه الهجمة الشرسة التي يقوم بها الشعوبيون، وحرصوا على بيانها وفضحها، فهذا ابن قتيبة يقول عن مؤلف الكتب السابقة: «كان يُبغض العرب، وصنَّف في مثالبهم كتاباً»، واتفق مع بعض النقاد الذين رأوا أن شرح أبي عبيدة لنقائض جرير والفرزدق وعنايته بها كان دافعاً من دوافع الشعوبية لديه.
وتذكر كتب التاريخ والأدب أنَّ غيلان الشعوبي ألف كتاباً لطاهر بن الحسين، وأنه كان شديد التشعُّب والتعصُّب، بل وُصف بأنه خارجٌ عن الإسلام بأفاعيله، حيث بدأ في كتابه بذكر مثالب بني هاشم، وذكر مناكحهم وأمهاتهم وصنائعهم، فبدأ منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فغمصه وذِكْرَه، ثم والى بين أهل بيته الأذكياء النجباء، ثم ببطون قريش على الولاء، ثم بسائر العرب، فألصق بهم كلَّ كذب وزور، ووضع عليهم كلَّ خبرٍ باطل!
وحين يحاول الباحث العثور على أمثال هذه المصنَّفات فإنه لن يجد منها إلا أقلَّ القليل، ويبدو أنَّ السبب الرئيس في ذلك يعود إلى أنَّ المسلمين تحرَّجوا من نقل هذا النوع من المصنَّفات، حيث عدُّوا هذه النزعة الشعوبية توجُّهاً ضدَّ الإسلام، ولهذا تقرَّبوا إلى الله بإتلافها.
ومن الطرائق التي اعتمد فيها أصحاب هذا التوجُّه في تعزيز أفكاره ورؤاه تأليف القصص الشنيعة في سياقات الشروح الشعرية أو الأمثال العربية، واختلاق الحكايات والمرويات التي تشوِّه صورة العرب، وتنسب إليهم كلَّ فعلٍ قبيحٍ وخلقٍ ذميم، كما فعل أبو عبيدة في سياق حديثه عن شرح المثل (جبانٌ ما يلوي على الصفير)، حيث ذكر في أصله قصةً في غاية القبح والشناعة، ويبدو أنَّ الشعوبيين اعتمدوا على العصر الجاهلي وما وقع فيه من مواقف وأحداث وقصص، واستثمروا الفرصة في نسبتها إلى الإسلام والعرب.
ومن الوسائل التي اعتمد عليها الشعوبيون في تعزيز هذا التوجُّه نسبة النصوص إلى غير قائليها، ساعين من خلال ذلك إلى إفساد الأدب العربي، وإضاعة معالمه، فيضيع أدب العرب، ولا يكون لنصوصهم مصدر موثوق، وهو هدفٌ رئيسٌ من أهدافهم، ويمكن الاستشهاد على هذه الوسيلة بتعليق أبي عبيدة على البيتين:
هَيْنُونَ لَيْنُونَ أَيسارٌ ذَوو كَرَمٍ
سُوَّاسُ مَكرُمةٍ أبناءُ أيسارِ
إن يُسألوا الخيرَ يُعطوه وإن خُبِروا
في الجَهْدِ أدركَ منهمْ طِيبُ أخبارِ
حيث نسبها إلى العرندس الكلابي، مؤكِّداً أنها جاءت في سياق مديحه لبني عمرو الغنويين، وهنا يتفطَّن الأصمعي إلى هذا الخطأ، معتمداً على العداوة المعروفة بين الكلابي والغنوي مما يجعل مدح أحدهما للآخر ضرباً من المستحيل.
ورغم كلِّ هذا التوجُّه الشعوبي إلا أنَّ الروح العربية في تلك الفترة ظلت مسيطرةً على المشهد النقدي، حيث سعى العلماء من لغويين ورواة إلى مواجهتها والدفاع عن الإسلام والعرب، بل إنَّ بعض العلماء تفرَّغ للردِّ على أصحاب هذه النزعة المتعصِّبة، ووُجد من الموالي من صرَّح برفضه لهذه النزعة الخبيثة وما تحمل من كيدٍ للإسلام أولا، ثم للعرب وما يتميزون به من تراثٍ وثقافة.
ولمزيدٍ من التوسُّع في هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى ما ذكره القدماء في كتبهم عن هذه القضية، كالجاحظ في كتبه، والخفاجي في (سرِّ الفصاحة)، والقيرواني في (العمدة)، والأصفهاني في (الأغاني)، ومن المصادر الحديثة: (في الشعر العباسي: نحو منهج جديد) ليوسف خليف، و(العصر العباسي الأول) لشوقي ضيف، و(ضحى الإسلام) لأحمد أمين، وغيرها.
- الرياض
Omar1401@gmail.com