هو عنوان لكتاب أشهر القراء آلبرتو مانغويل لم أجد مناصاً من العنونة به ضمن سلسة قديمة لي وهي معنية بتاريخ الورق والكلمة والكتاب، وكل ما له صلة بفعل القراءة مع التعريج على قضايا فكرية مهمة، وعلى كل حال لا أظن مهما أطلنا البحث أن نقف على أرضية صلبة حول قصة البداية لهذا الشأن، وإنما هي مقاربات ومحاولات نروم من خلالها الاقتراب بتوجس من شرارة هذا الفعل المقدس، وهو فعل القراءة ولا أظن أن هذا المقال سيجاوز الحديث النفسي عن القراءة، وما الضير في ذلك؟.. إذا كان الإنسان اليوم هو إنسان الكهف في شعوره وأولياته الفطرية، فقد نعثر في هذه الأثناء على ضرورة البوح والإعلان عن أن لكل قارئ تاريخاً ولكل قارئ بداية، وقد يعود هذا علينا بأضعاف ما لو قبضنا على أول قارئ متوحش في مغارة سومرية، ويشهد لهذا كثرة المحاضرات التي تقيمها المكتبات العامة والمجالس الثقافية والأكاديميات عن (تجربتي في القراءة).. يا له من شعور لذيذ ذلك الذي يخالطك وأنت ترتقب هكذا لقاء مع نفسك أنت لا مع الجمهور، إنه بوح وأنين داخلي أن الذي يقف على المنصة ويحدث الناس عن تاريخه القرائي إنما يقطع أوصاله ويطعمهم!
كيف لا؟
وهو يكشف سره ويتكلم ذلك الكلام المحرم.. إنه يحرق أيامه ولياليه في جلسة واحدة تحت ذريعة (تجربتي في القراءة) كيف يقدم على هذا؟ كيف ينتحر؟.. نعم هو شعور لذيذ ولكنه مخيف مخيف.
فئات القراء:
أورد الكاتب المسرحي والروائي هنري ميللر في كتابه (الكتب في حياتي) فئات من القرّاء وهو ينقلها عن كتاب (قراءة الكتب) لمؤلفه هولبروك جاكسن.
1 - الإسفنج: الذين يستوعبون كل ما يقرؤون، ويعيدونه وهو في حالته نفسها تقريباً، ولكن أقذر قليلاً.
2 - الساعات الرملية: الذين لا يحتفظون بأي شيء، ويكتفون بالمرور على الكتاب تزجية للوقت.
3 - المتوترون: وهم الذين لا يحتفظون إلا ببقايا مما قرؤوا.
4 - مالكو الجواهر: وهم نادرون وقيمون، يستفيدون مما يقرؤون، ويمكّنون الآخرين من الاستفادة أيضاً منه.
سبق وأن ذكرت في حديث قديم أيضاً (أن القراءة فعل مباح للإنسان بما أنه إنسان كرمه الله بالعقل, ولكن الجسم المريض لا ينفعه الطعام الجيد بل يغثيه ويمعده.. لم أتمن هذه البداية ولكن الواقع مرير، فمن تجول ذات صباح على مقالات الجرائد وأصغى لما يُدار في المجالس من أحاديث صادرة عن قراء، وقفَ على مدى الفجيعة الفكرية التي تخلفها القراءة لبعضهم.. إنهم يقرؤون كل شيء في كل وقت، وليس هذا عيباً، بل مكرمة للأسوياء.. إنهم يقرؤون بلا أسئلة لماذا؟.. وإلى أين؟
وكيف؟
وإذا أنت لم تعرف ذاتك، وماذا تريد فلن تستطيع أن تقدم للمؤلف أي سؤال جديراً بالعناية، ليحرك عالمه ويغير قناعاته ومسكين هو المؤلف ذو الجمهور الأمي وإن قرأ.
إن أشد حالات التخلف هو ذلك التخلف الذي تفرزه القراءة لأن المتخلف قارئ، فبماذا ستنصحه هذا إذا أصغى إليك فضلاً عن أن يستنصحك.
إلى جوار المكتوب هناك المرئي وهي حال آلة الثقافة - التطور مما يسهم في نمو معرفة المتلقي وتنوعها بيد أن الإنترنت والإعلام بأنواعه لا يخلق مثقفاً ولا يبني طالب علم، بل إن في هذه الوسائل الحديثة إيهاماً للمتابع وخديعة له بأنه صار مفكراً لأنها تحدثه عن كل شيء ولكن لا تعطيه شيئاً وخير جليس في الزمان كتاب، ومهما تطورت هذه الوسائل فهي قنوات ولا غنى للبحار ذي الصدر الرحب عن البحر.
يُوصف القارئ النهم بأنه دودة كتب، وترد هذه الصفة في مذكرات كبار القراء كثيراً، وللوهلة الأولى قد يظن السامع لهذا الوصف أنه للمدح، ولا أرى ذلك فهو دودة في ثنايا الكتب تلتهم الأحرف بشغف وتنام وتصحو بين الأوراق والمعرفة الحقيقية تُؤخذ من الحياة الرحبة، لا من وسائل التواصل مع الحياة والكتب وسائل لذلك لا غايات وأيضاً هو كدودة لا يترجم ما يقرأ لواقع الناس، ثم أيضاً هو لا يفهمهم ولا يقرأهم إلا من خلال الكتب وقد حجرَ واسعاً بذلك.
دودة الكتب تحيا وتموت وهي دودة، بينما الرجال العظماء قرؤوا قليلاً وأثروا كثيراً.. كم تعرف وأعرف من هذا الدود المنتن والذي شُغل بعضهم عن نفسه فهو أشعث أغبر وليت ذلك في طلب العلوم الشرعية أو طلب المخترعات العلمية، بل في علوم فاسدة لا تطعم ولا تسقي.
هناك من يقرأ ويقرأ وفي كل الظروف فمنهم من يسارق قصاصات الوقت في دوامه الرسمي ليتناول بعض الصفحات من كتاب أثير، وهناك من يستغل وقوفه في طابور أو في مترو أو صالة انتظار الطائرات، بل هناك من يمارس هذه العادة بأن يقرأ عليه غيره، وهو في بيت الراحة وهذه سجينة في باريس تُهرِّب لها صاحبتها في الزنزانة السفلية الكتب ترفعها بخيوط سحبتها من غطائها وهكذا، فالقارئ لا شيء يحول بينه وبين كتابه، وأنا أكرههم كلهم عدا أولئك الذين يعيدون قراءة ما قرؤوا ويترجمونها لحيوات أخرى يدمجونها مع حياتنا النمطية، فتضفي عليها شيئاً من ألوان الطيف.
اقتناء الكتب
الناس في اقتنائها أصناف منهم من هو صائد ماهر، ومنهم من هو حاطب ليل، ومنهم مستكثر بما لم يعط، ومنهم كتبي غاية همه ونهاية مرامه أن يكدّس الكتب في دواليبه الخشبية، لينظفها كل يوم ويعيد ترتيبها كل يوم، وإن قرأ منها شيئاً سقط على الرديء وقليل القيمة، وقد عرفت أحدهم ورثيت له كثيراً.. إنه يبتاع منها الكثير والكثير ولديه مكتبة هائلة مخيفة.. إنه يقتني العديد من النسخ للكتاب الواحد. وإن كان من المطولات والمجلدات بلا ميزة بين الطبعة والطبعة والنسخة والنسخة، بل هي هي أدور معه في هذه المكتبة المركزية وألمح له أن يُوصي بها لي ولا أدري من يسبق الآخر، وبطبيعة الحال إن صارت إليَّ سأغربلها أشد ما تكون الغربلة، وإن صفي منها الثلث فخير والثلث كثير.
في زمن الستينيات الأوروبية فشت ظاهرة استعراضية يقوم الناس فيها برصّ أوراق في مجلدات، وكأنها كتب ووضعها على أرفف الصالون المنزلي أو لصق ورق الجدران المزين بصور الرفوف حاملة الكتب لتعطي المكان انطباعاً ثقافياً.. تلقف العرب هذا بعد حين وفي بواكير نهضتهم المزعومة عندما جلبت المطبعة إلى مصر وصارت تقذف بالجيد وغيره من الكتب فتلقفها أهلها وغير أهلها، ممن يتجمّلون بها ويجمّلون بها مجالسهم، وهنا أهمس في أذن القارئ المبتدئ مع أن المقام لا يتحمّل التوجيهات بأن لا يكثر، بل يحرص على الكيف، وما يناسب مرحلته القرائية، وأن يضع الكتب أمامه في مكتبة صغيرة جذابة لتشع أجواؤه بالثقافة، ولا يزهد في وصايا القراء الكبار المنتجين لا الدود!؟
اقتناء الكتب فن وذوق وتحضُّر وهو طبيعة نفسية تختلف باختلاف الناس، فمنهم من كُتبه ملونة مشرقة، ومنهم من كُتبه سوداء مظلمة يغرق في عتمتها يوماً بعد يوم، وهذا الاقتناء يتطور ويتغير مع تقدم عمر الإنسان القرائي، بل وتصقل الحاسة الانتقائية للكتب لدى القارئ، فما أن يدخل المكتبة وبلحظة عين واحدة يمر على رف كامل وهو يعلم يقيناً أنه ليس ذا بال، وأكثر من هذا يدور بهدوء في المكتبة ثم لا يلبث أن ينقض كنسرٍ على رف من الرفوف ليلتقط كتاباً ويقلّبه متصفحاً لفهرسه ليدسه في كيسه بحبور، فقد اصطاد سميناً.. كل هذا في لحظة واحدة وكثرة الاقتناء لا تتعلق بالضرورة بالبدايات ولا النهايات، فكل قارئ وقصته الخاصة ولكنها تخضع لعوامل عدة فتكون في البداية أحياناً لبناء المكتبة، وأيضاً للتخبط الشرائي وتكون في المنتصف لوضوح الرؤية شيئاً ما، وللرغبة في اقتناء بعض الأمهات وتكون في النهاية لوضوح الخارطة الذهنية والتخصص والجداول المحاذية للقضية الكبرى لدى القارئ، ولا يخفى ما للحالة النفسية من أثر في ذلك، فبعضهم يتبضع الكتب ليخفف وطأة الاكتئاب الطارئ فينة بعد أخرى.
لا يغالي آلبرتو مانغويل عندما يعلن أن فعل القراءة (يُشكّل علاقة حميمية وجسدية مع الكتاب بمشاركة جميع الحواس.. العين تجمع الكلمات على صفحة والأذن ترجع صدى الكلمات المقروءة والأنف يشم رائحة الورق والصمغ والحبر والورق المقوى أو الجلد والأنامل تتحسس الصفحات الناعمة أو الخشنة والتجليد الناعم أو القاسي وحتى حاسة الذوق تشارك في العملية عندما يرفع القارئ إلى فمه الأصبع الموجودة على الصفحة، الطريقة التي سمَّ فيها القاتل ضحاياه في رواية أمبرتو إيكو اسم الوردة).. لقد عشت ذلك في إحدى صيفيات أبها والصيف معروف بأدب الصيف وأيضاً بقراءة الصيف، فقد قرأت في أقل من الشهر ستة وثلاثين كتاباً مع التعليق وضبط الفوائد، لقد كانت أكبر الغزوات ولا أنكر أن قراءة كتاب عظيم على مهل تصب في مفاصل الفكر وتؤثر على مناحي السلوك بما لا يدع مجالاً للمقارنة بينه وبين هذه الغزوة القرائية، ويُحكى أنه ومن العصر الفكتوري كان المسافر يحمل معه حقيبة من الكتب، بل وهذا الصاحب بن عباد إن صحت عنه الرواية يسافر بأربعين جملاً محملة بالكتب لم أتطرق لتاريخ القراءة، لأن هذا المقال سبق بمقالات عن تاريخ القلم وتاريخ الكتابة وتاريخ الكتاب مما هيأ لي الاستراحة في هذا المقال مع هذه الخواطر التي قد يكون فيها شيء مفيد أو ممتع.
- الرياض
t.alsh3@hotmail.com
TALSH3# تويتر