سأدخل من مدخل ذي صبغة أبستمولوجية، للوصول إلى ما أريد قوله في هذه المقالة، وسيكون دخولي مرتكزًا على ما ذكرته سابقًا من أني مقتنع أننا لن نبالغ كثيرًا لو قلنا: إن عددَ تعريفات الفلسفة مُساوٍ لعدد الفلاسفة، وهي قناعة منبثقة من قناعة أخرى يشترك معي فيها الكثيرون فيما أظن، وهي أن القطعَ بتعريف أو تعريفات معدودة محدودة لمصطلح (الفلسفة) أمرٌ في غاية العسر والصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً أو شبه مستحيل، وهذه القناعة الثانية مبنية أيضًا على قناعة ثالثة، وهي أن تعريف الفلسفة يرتبط ويتأثر بالتوجه أو المدرسة الفلسفية التي ينتسب لها المُعرِّف، ويرتبط ويتأثر أيضًا بنظرته هو ومسلكه الفلسفي وطريقة عمل عقله كفيلسوف أو دارس للفلسفة أو مهتم بها، إلى غير ذلك من العوامل المؤثرة في تعريف المُعرِّف لهذا المصطلح الذي ما زال أهله يتجادلون كثيرًا في تعريفه منذ القدم وحتى اليوم جدالا قلّما نجد له مثيلا مع غيره من المصطلحات.
نعود للمدخل الأبستمولوجي، ومقصدي من ذلك أني سأتجاهل هنا كلَّ تعريفات الفلسفة الكثيرة التي لا تنتهي أعدادها ولا يمكن حصرها، وسأختار منها تعريفًا واحدًا من التعريفات ذات العلاقة بنظرية المعرفة epistemology))، وهو أن الفلسفة ليست إلا تنظيم العلاقات بين حقول المعرفة المختلفة، أي أنها عملية تنسيق دقيقة شاملة كبرى بين ميادين المعرفة التي يهتم كلُّ ميدان منها بناحية من نواحي المعرفة والخبرة والتجربة وغيرها.
إننا وعطفاً على ما سبق، إذا نظرنا إلى التفكير الفلسفي بهذا التصوّر، أي بأنه وسيلة الاتصال بين مدن المعرفة الكثيرة، فإننا -في اعتقادي- نستطيع النظر إلى كلِّ متخصص يحسن الربط والتنسيق بين مختلف الجوانب في تخصصه على أنه فيلسوف في تخصصه، ومن ذلك ما أنا بصدده هنا وهو الطبيب العام الفيلسوف.. وقبل أن نتعمق يحسن أن نشير بعجالة إلى أن ارتباط الطب بالفلسفة والتأمل قديم، فمن يقرأ عن حضارات وادي الرافدين القديمة وعن الحضارات الفرعونية واليونانية والصينية والهندية القديمة أيضًا، سيجد الكثير مما يدخل في هذا، ويكفي هنا أن نورد معلومة هامة، وهي أن كثيراً من الفلاسفة الأوائل كانوا أطباء، فكان الواحد منهم يوصف بالطبيب الفيلسوف، أو العكس، أي الفيلسوف الطبيب، كابن رشد وابن سينا، وكأبقراط الإغريقي، الذي يهمنا جدا في هذه المقالة قوله: «الطب قياس وتجربة».
ومن مقولة أبي الطب أبقراط السابقة، سأنطلق شارحًا مرادي، فالطبيب في عصرنا كما يعلم الجميع، إما أن يكون طبيبًا عامًا يتجه للعمل مباشرة بعد الانتهاء من السنوات الدراسية الأساسية في كلية الطب، أو أن يزيد عليها سنوات أخرى لدراسة فرعٍ معين أو دقيق من فروع الطب يتخصص ويتعمق فيه، فيصبح أخصائيًا فيه أو استشاريًا أو نحو ذلك، ثم يقضي حياته العملية بعد الانتهاء من الدراسة في علاج المرضى الذين يعانون من مشاكل معينة في دائرة تخصصه، فنجد مثلا الطبيب المتخصص في القلب أو في العظام أو في العيون أو في الباطنية أو في النساء والولادة أو في الطب النفسي أو في طب الأسنان... الخ.
الفئة الثانية لا تعنيني كثيرًا في هذه المقالة تحديدًا، أعني فئة الأخصائيين والاستشاريين ومن يدخل في حكمهم من المنشغلين والمهتمين بتخصصات طبية دقيقة، ففكرة موضوعي تتمحور حول الفئة الأولى، أي حول (الطبيب العام).
فقد اعتدتُ في جوانب حياتي المختلفة على إطالة التأمل في كلِّ ما يمرُّ بي، ومن ذلك ما أنا بصدده، فقد ظهر لي جليًا بعد سنوات من تأمل ما يدور أمامي في عدد كبير من العيادات والمستشفيات والمراكز الصحية، التي كنتُ أراجعها كغيري من الناس، لعلاج نفسي أو غيري من أفراد أسرتي.. أقول: لقد ظهر لي جليًا أن هناك فئة من (الأطباء العامين) يستحقون بكل جدارة أن ينعتوا بالأطباء الفلاسفة، ولا أعتقد أني سأبالغ لو قلت: إن هذه الفئة من الأطباء العامين تحديدًا، يتقنون في كثير من الأحيان قراءة الجسد والنفس قراءة شاملة كلية قد لا يتقنها كثير من الأطباء الذين أشغلتهم تخصصاتهم الدقيقة عن النظرة الشمولية الكلية الفلسفية التأملية العامة، فقد أذهلني عددٌ من الأطباء العامين بما يملكونه من خبرات طويلة في تأمل مرضاهم ودراسة أجسادهم وأرواحهم دراسة فلسفية عامة عميقة مترابطة، وسريعة في نفس الوقت، فبمجرد الفحص السريري الأوّلي وإجراء بعض التحاليل البسيطة وطرح أسئلة معينة على المريض، يصل الواحد منهم -بخبرته الطويلة- إلى نتائج عجيبة مفيدة للمريض، قد لا يصل إليها مريض آخر أنفق من الأموال والأوقات الكثير في عيادات أكبر الأخصائيين والاستشاريين والجراحين.
فأين يتواجد هؤلاء الأطباء الفلاسفة؟
الإجابة بكل بساطة: لا أحد يستطيع القطع بأماكن معينة يتحتم وجودهم فيها؛ ولكني كتبتُ هذا الموضوع لأني أعتقد في الحقيقة أنهم يتواجدون في بعض الأماكن أكثر من غيره، وتلك الأماكن هي المراكز أو العيادات أو المستوصفات الواقعة في الأماكن عالية الكثافة السكانية، وغالبًا ما تكون هذه الكثافة في الأحياء الشعبية أو الفقيرة أو ما شابه ذلك.
ولكن هذا لا يستلزم بالضرورة أن كلَّ طبيب عام يعمل في حي مزدحم ينطبق عليه ما أقول؛ فلا بد من تحقق شروط معينة أبرزها في نظري ثلاثة هي:
1- أن يكون المركز الطبي أو المكان الذي يعمل فيه الطبيب مزدحمًا دائمًا، كالعيادات الواقعة في أحياء محدودي الدخل، التي يكون فيها العلاج بمبالغ زهيدة.. وبما أن الطبيب العام هو البوابة الأولى التي يدخل منها كثير من المرضى قبل التوجه للمتخصصين في فروع الطب المختلفة، فإنه –منطقيًا- يتعامل مع أعداد كبيرة من البشر، وبصورة يومية مستمرة لا تتحقق غالبا للأطباء المتخصصين خاصة المشاهير أو العاملين في مستشفيات مشهورة تطلب من المريض أبهظ الأثمان.
2- أن يكون الطبيب العام قديمًا في هذا المكان المكتظ بالمرضى، أو أنه أطال العمل في أماكن مشابهة مزدحمة، فالطبيب العام الجديد أو الذي أمضى فترات قصيرة لا ينطبق عليه كلامي في غالب الأحيان، حتى لو عمل في عيادة مكتظة.
3- أن يملك الطبيب العام -وهذا مهم جدًا- القدرة المنشودة أو الموهبة التأملية الشاملة إن صح التعبير، وتدخل في هذا الشرط شروط فرعية يطول شرحها، منها التمتع بقدر عالٍ من الذكاء، وبقدرات عقلية مرتفعة، وبمهارات التفكير الفلسفي الكلي العام الشامل الذي لا تتوفر خصائصه إلا عند قلّة من البشر، وبالدافعية الداخلية التي نراها عند كثير من الأطباء المخلصين الذين يتحمس ويجتهد الواحد منهم ويبذل كلَّ ما بوسعه بصدق لمساعدة مريضه وعلاجه بأيسر وأسرع الطرق، وبأقل التكاليف.
قد يقول البعض:
كلامك السابق كلّه ليس خاصًا بفئة من الأطباء كما تزعم، فكل الأطباء يربطون الأمور الصحية ببعضها، فعندما أدخل المستشفى لإجراء عملية جراحية مثلاً، فإن الطبيب المتخصص في تلك العملية، قد يكتب لي أدوية متعددة، كعلاج لضغط الدم مثلا أو السكري إذا لاحظ خللا في القراءات.
وجوابي هو: نعم هذا صحيح في كثير من الأحيان؛ ولكني لا أقصد هذا فقط، أو بعبارة أدق: لا أتوقف عند هذا، بل أتوسع فمقصدي أبعد وأعمق من ذلك بكثير، وباختصار أقول لتلخيص زبدة هذه المقالة:
إذا رأيتَ عيادة أو مستوصفًا أو أيَّ مركز طبي مزدحم في حي شعبي مكتظ بالسكان، فلا تتردد في الدخول إليه والبحث مباشرة عن الطبيب العام قبل غيره من الأخصائيين والاستشاريين، مهما كانت علّتك التي تشكو منها أو تبحث عن علاج لها، فقد تجد في أحيان كثيرة أحد المقصودين من موضوعي في عيادة (الطبيب العام) في ذلك المركز أو المستوصف المزدحم، أي قد تجد طبيبًا فيلسوفاً حنكته وأنضجته التجارب، فيشخصك ويعطيك من عصارة خبرته خلاصة ما ينبغي عليك فعله فتشفى.
لا أقول ذلك من فراغ، بل من عدّة تجارب حصلتْ لي ولعددٍ من المقرّبين منّي، ولن أعدد أمثلة لما مرَّ بي شخصيًا في عيادات بعض الأطباء العامين الفلاسفة، ولا لما مرَّ بغيري من المعارف والأصحاب، حتى لا يُفهم الموضوع من زوايا ضيقة..
سأترك لكل قارئ اقتنع بطرحي أو أحبَّ خوضَ التجربة غير المكلفة لا من حيث المال ولا من حيث الوقت.. سأترك له المرور على العيادات العامة الرخيصة المزدحمة في تلك الأحياء الشعبية، والبحث عن أولئك الحكماء من الأطباء، فربما تجدون عند بعضهم من الفلسفة الطبية النافعة باختلاف صورها ما يزيدكم قناعة بما ذكرته.
والحقيقة أن هذا ينطبق أيضًا على بعض (الصيادلة)، الذين يعملون في صيدليات كثيرة الزبائن والرواد، ولن أنسى ما حييتُ صديقي الصيدلي، الذي جمعتني به صداقة قوية، من خلال ترددي على صيدليته رغم بعدها عن منزلي، والسبب هو أنها دائمًا مزدحمة بالناس من جهة، وأن لحيته شابتْ في هذه المهنة التي أمضى فيها عشرات السنوات من جهة ثانية؛ ولأن الشروط الثلاثة التي وضعتها أعلاه تنطبق عليه 100%، فهو صيدلي فيلسوف بحق، يسأل المرضى والزبائن –وأنا منهم- أسئلة بعيدة كنتُ أستغرب منها في البداية كثيرًا؛ ولكني أتفاجأ في النهاية أنها كانت مربط الفرس في الموضوع، وأنه وصف لي ولغيري العلاج أو الغذاء المناسب لحالاتنا بناء على إجاباتنا عن أسئلته والربط بينها بتأمل ذكي شامل.
وأختم بثلاثة استدراكات ضرورية لرفع سوء الفهم الذي قد يتولد من قراءة كلامي السابق وهي:
1- تركيزي على الأطباء العامين لا يقتضي بالضرورة إخراج كلِّ الأخصائيين من موضوعنا، فلا شك أن هناك من المتخصصين من يملك حسًا فلسفيًا ونظرة شمولية، والعكس صحيح أيضًا، فقد نجد الطبيب العام السيء الذي لا يستحق أن يكون طبيبًا أصلاً، فضلاً عن أن يوصف بالطبيب الفيلسوف.
2- من أوضح الدلائل والمؤشرات على أن الطبيب الذي يجلس أمامك من الفئة المقصودة في هذه المقالة، خوضه واهتمامه بكثير من النواحي التي لا يلتفت لها كثير من الأطباء غالبًا عند معاينة حالة مرضية معينة، كبعض أنواع الأعشاب والأدوية الشعبية المناسبة للمريض مثلا، وكالتعمق في الجوانب العقدية والفكرية وآثارها النفسية؛ بالإضافة -وهذا في غاية الأهمية- إلى الأغذية التي يتناولها الإنسان، بدراسة وتأمل أثرها على حالتيه النفسية والجسدية.. وما شابه.
3- تكراري لكلمة (طبيب) بصيغة المذكر، لا يعني أبدًا تجاهل الطبيبات، بل هو شامل للجنسين، وقد ساد عند الكتاب والمتحدثين مثل ذلك في مجالات كثيرة، فيقول القائل مثلا: أيها المعلمون، ويقصد المعلمين والمعلمات، أو يقول: من واجبات المواطن، ويقصد المواطنين من الجنسين.. وهكذا.
وكل التحية والتقدير في السطر الأخير لكل الأطباء والطبيبات المخلصين والمخلصات، وما أكثرهم.. وأخصُّ منهم أهلَ الحكمة والفلسفة الطبية والفكر التأملي الشامل، وما أقلّهم.
وائل القاسم - الرياض