لا يمكن لأحد أن يقرر ماهو الأصل في القوة،لأن كل أصل يحمل الاستعداد للتفسيد و الانحراف الدلالي، وهو ما يُصعّب على المُحلِل الفكري أو الثقافي أو المنطقي الاطمئنان إلى أصل خالص من خلفيات الاكتساب.
هل هذا المُفتتح إشارة إلى نيتي للبحث في جوهر القوة؟ وأمر الإجابة في ذاته لا يُمكن ضبطه بالنفي أو الاثبات المجردين ؛لأن «البحتية» هنا ليست مقصدا في ذاتها وتجنب قصديتها لا يرفع ضرورة الاحتجاج بها هنا،كما أن البحتيّة لا تقتصر أهميتها على المؤشر التوصيفي لبنية المنطق،هي أيضا ضابط لتطور أي مؤشر توصيفي قابل للكفاية الواقعية.
إضافة إلى أن الاعتماد على «الكفاية الواقعية» أي الجانب التطبيقي للأصول في جوهرها لا يُمكن إثبات صحتها دون الاستعانة بحيثيات تحكيم البحتيّة، وتجاوز قاعدة إثبات الصحية تلك هو أمر لا تستقر منطقيته غالبا.
ولذا فالموازنة بين الجانبين»مؤشرات الأصول والسلامة التطبيقية للكفاية الواقعية» في حدود ما تستوحيه الموضوعية والمعالجة التحليلية مرشد حكيم غالبا .
قد يرى البعض أن كل «حركة» قوة في ذاتها وبهذا التصور فإن «الثابت عكس القوة التي تتمثل من خلال الحركة»،وهناك من يرى أن «كل فعل» قوة في ذاته،وبهذا التصور فإن «اللافعل أو السلبي» عكس القوة التي تتمثل من خلال الفعل، وهناك فرق بين الحركة والفعل ؛فالحركة مسار لا يُنتج تغييرا والفعل تغيير، وكل فعل هو حامل لحركة بالضرورة، في حين ليست كل حركة هي ممثلة لفعل بالضرورة أو الاقتضاء.
ويمكن صف مجموعة من الممِثلات المُصّدرة للقوة مثل الديمومة والاستمرار والتصاعد والدفع والتحوّل.
وسنلاحظ فيما نعتقده من ماهية القوة أن ما اعتبرناه تعريفا للقوة ما هو سوى مجموع من المؤشرات الدالة على صور القوة وليس تعريفا مخضا للقوة.
وهي مؤشرات مُعِينة على تكوين رابط مفهوميّ.
إضافة إلى نقطة علينا أن نقف عندها مليا وهي أن «السلبي» هو «قوة مضادة « في ذاته لقوة أوليّة ؛ فكما أن الهجوم قوة فالدفاع والمقاومة قوة.
ولذلك فطبائع الأشياء تتكون من خلال علاقة بين قوتين، يحركهما اختلاف أو تنافس أو صراع.
ووفق معيار الدافعية السابق لتكوين القوة المضادة،هل يُمكن اعتبار «القوة المضادة» أصل بالطارئ وليست أصلا بالأوليّة؟.
حسب ما أعتقد أن كل «قوة مضادة» هي أصل بالطارئ العلليّ وليست أصل بالأوليّة ؛ لأن القوة المضادة هي «قوة حاصلة أو مكونّة نتيجة رفض أو دفاع أو مقاومة أو نتيجة مطالبة بحق أو توازن أو مساواة» وبمجرد ما تتحقق أهداف تلك القوة المضادة تعود للاندماج مع القوة المقابل لها، وهذه المنظومة العلليّة للقوة المضادة هي التي عنّونت في ضوئها «فقه القوة المضادة».
تعتمد طبيعة الأشياء على وحدة القوة على جانبيها الفاعل والسلبي، وإذا آمنا بأن كل الطبائع تملك القدرة على التطور والترقي بالتالي آمنا بوجود قوة استباقية هي التي تأسس تهيئة الطبائع للتفاعل مع قوانين التطور والترقي،إضافة إلى أن القوة لازم فاعل لحماية ذات الطبيعة وخصائصها، وهي كذلك القدر الذي يتحكّم في مسيرة الاختلاف والصراع وتقسيم مستويات التمكين وتاريخ التداول.
فإذا كان الحق ممثلا لقوة فالباطل ممثل بدوره لقوة مضادة للحق، وإذا كان الخير ممثلا لقوة فالشر بدوره هو أيضا قوة مضادة للخير، وذات المثالين سائران على الجمال والقبح والسلام والحرب والظلم والانتقام.
ويُمكنك القياس وفق تلك المسطرة القائمة على إرادة القوة أو «فقه القوة المضاد»
وبذلك لا يمكن أن نوحد مصدر القوة أو منحاها دون الاعتراف بثنائية تمنع الانفراد الآحادي لذلك المصدر ومنحاه؛ لأن كل قوة بالكمون تحمل القدرة على المقاومة والتغيير للقوة الثابتة بالظهور.
إن الظلم يمنح المظلومين قوة التطرف والانتقام، والتمييز يمنح الأقلية قوة التطرف والانتقام والقمع يمنح المضطهدين قوة التطرف والانتقام، فثمة إرادة لقوة مضادة تختبئ بين جوانح الحلقة الأضعف بالظاهر.
فهل الطبيعة الإنسانية مٌقدّرة بهذه الكيفيّة ؛أي القوة وفقه القوة المضاد ؟، أم أن هناك تداخلات مكتسبة هي التي تصنع الانحراف الدلالي لتلك الطبيعة ؟.
أولا الطبيعة في ذاتها لا تٌقدر وفق فاسد،-والتقدير لا يحجز الصفة إنما يقرر الجوهر-.
وهو ما يعني أن «القوة المضادة هاهنا « لا تخرج عن ثنائية «الرفض أو القبول» لضرر مؤقت غير معتمد ؛أي تأتيان بمعية معنى ممارسة «حق المرء قبولا أو رفضا» في المحافظة أو المطالبة بما يرعى كرامته وما تستوجبه تلك الكرامة من أقوال وأفعال ومكتسبات وحقوق وواجبات.
وتُراعى كرامة المرء من خلال كرامة العِرق،كرامة المعتقد،كرامة التعبير وكرامة التاريخ وكرا مة الاكتفاء الذي تحميه من العوز والحاجة،وهي ضمانات غالبا تتكفل بتحقيقها والحفاظ عليها القوة الأولية التي تحكم، وبالتالي نستنتج أن الطبيعة السوية لا تميل نحو التماثل إنما التفاضل وفق أصول ما تستوجبه الكرامة الإنسانية وتدعمه القوانين الحامية لاستمرارية مبادئ ما تستوجبه الكرامة.
إن معيار التفاضل الذي تٌقسّم الشعوب والمجتمعات والأمم والأفراد في ضوئه وتتجدّول وفقه المراتب يعتمد على أساسين هما «الأساس الكمي والأساس الكيفي» وهما بدورهما يؤسسان كفاءة التفاضل وفق ثلاثة مستويات؛ التاريخ والعلم والقدرات.
وبذلك يُصبح التفاضل «قوة في ذاته»،مُحرضا «لقوة مضادة» لكل متجاوز لمحتوى ذلك التفاضل،وهكذا تتكون لدينا توصيفات ثنائية تقابلية لمن داخل إطار التفاضل مقابل من يقف خارجه تحركها الجغرافيا والفكر والمعتقد والسياسة ؛ فالغرب المتحضر داخل إطار التفاضل يقابل الشرق المتخلف،والغرب التنويري داخل إطار التفاضل يقابل الشرق الرجعي، والغرب العلماني داخل إطار التقابل يقابل الشرق المعتمد على الخرافات اللاهوتية.
ثم تأخذ تلك التوصيفات الثنائية في تفرع ذي اتجاه موّحد،ليُصبح الغرب داخل إطار التفاضل رمز التسامح الديني والتعايش المشترك والليبرالية والديمقراطية العميقة،مقابل العالم الإسلامي رمز التطرف والإرهاب والعنف، والتمييز الطائفي .
وتزيد تفرعات ذي الاتجاه الواحد لنجد كل دولة عربية وإسلامية تعاني من صراع خفيّ أو ظاهر بين المتطرفين والمعتدلين من السنييّن من جانب أول وبين المعتدلين والمتطرفين من الشيعييّن من الجانب الثاني وبين المتطرفين من السنييّن والمتطرفين من الشيعيين من جانب ثالث.
وهناك صراع خفي صحيح أنه حتى الآن لا يمثل قوة مضادة لكنه على المدى البعيد سيُمثل قوة مضادة وهو الصراع بين «الدينيين ومزدوجي العقيدة».
ويُمكن إجمال القول بأن ليس هناك طبيعة إنسانية فاسدة إنما هناك من يُفسد تلك الطبيعة لتحقيق التمكين الديني أو السياسي أو التاريخي.
- جدة