د. خالد محمد باطرفي
«أينما قدر لي أن أكون كان الأمير سعود الفيصل هو ملاكي الحارس». يقول الدكتور عبدالعزيز خوجة، السفير السعودي السابق في عدد من العواصم الدولية.
* أذكر أنني اقترحت، بوصفي سفيراً لخادم الحرمين الشريفين، تأسيس مدرسة عربية في أنقرة عام 1986، ترعاها السفارة، فتحمس الأمير للفكرة، وخلال أشهر كانت المدرسة قائمة، تحقق هدفها في تعليم طلابنا والمقيمين العرب، والراغبين في تعلم اللغة العربية.
* تكرر الموقف نفسه بعد انتقالي إلى موسكو بوصفي أول سفير سعودي هناك، واستطعنا خلال أشهر قليلة تجهيز أكاديمية عربية، تماثل في تجهيزاتها الكليات، بعد أن كان العرب في موسكو قبل ذلك يعانون ضَعْف وسائل التعليم العربية لأبنائهم. وساهم في سرعة قيام المدرسة الدعم اللامحدود، ومن ذلك أن كل شيء تم استجلابه من المملكة، من أثاث وأجهزة وكتب وأدوات تعليمية.. إلخ، في طائرة شحن خاصة. وما زالت المدرسة بمكتبتها الكبيرة ومعاملها الحديثة ومبناها الضخم تشهد لمملكة الثقافة والإنسانية ولهذا الأمير المثقف بالدور السعودي في خدمة الإسلام واللغة العربية في شتى بقاع الأرض.
* ولأني افتتحت أول سفارة سعودية في روسيا فقد واجهتني صعوبات كثيرة، كان سعود الفيصل لها بالمرصاد، وكان اسمه وحده يكفي لفتح الأبواب الموصدة، إضافة إلى قيمة المملكة العربية السعودية وسمعتها ومكانتها في العالم. وخلال أشهر استطعت أن أجهّز سفارة في قصر سابق بالقرب من الكرملين والبرلمان الروسي، ومنزل للسفير، وسكن لأعضاء البعثة الدبلوماسية في مبانٍ ومواقع متميزة، وبناء قناة تواصل وصداقة وتعاون مع القوة العظمى الثانية في العالم. والفضل بعد الله يعود لقيادة الملك فهد - رحمه الله -، ولوزيرنا القدير.
* الشيء نفسه تكرر في كل بلد عملت فيه. ففي كل عاصمة مثلت فيها بلادي كان سعود الفيصل معيناً ومساعداً وسنداً، يتقدم خطوي، ويقودني ويوجهني. ولا أذكر أنني احتجت منه لدعم أو مشورة إلا كان نِعْم الداعم والمشير.. ولا طلبت منه مساعدة إلا سارع إلى تحقيقها وأكثر.
* ابن الفيصل العظيم كانت سمعته مفتاحاً سحرياً واسماً قوياً نستخدمه، وكانت علاقاته القوية مع الملوك والرؤساء ووزراء الخارجية وكل من نتعامل معه تيسر عملنا وخدماتنا لبلدنا ومواطنينا. كنا نحن السفراء محظوظين بوزارته لنا، ويغبطنا عليه الآخرون.
سمعت كلاماً كهذا من سفراء ودبلوماسيين، كما سمعته من مسؤولين وصحفيين عرب ومسلمين وأجانب، تعاملوا معه، ويكنون له كل الاحترام والتقدير.
تقول وزارة الدفاع البريطانية في تعريفها للأمير: «طويل القامة، وسيم، قوي التعبير». ويقول صحفيون أجانب: «تصريحاته واضحة، صريحة، منطقية حتى لو لم توافقك. يزن كلامه بدقة شديدة، فيراعي كل ما يمكن للمعاني البيّنة والخفية أن تحمله، ويزن ما بين السطور، بكل لغة يتحدث بها، العربية، الإنجليزية والفرنسية. كما يتميز بحس فكاهي ذكي، يخفف بالطرفة من حدة الكلام مع خدمة نفس الهدف». ويقول وزير الخارجية الأمريكية جون كيري عنه: «هو أكثر وزراء الخارجية (حكمة)، ويحظى بإعجاب عالمي، وسأظل أطلب مشورته».
سعود بن فيصل بن عبد العزيز آل سعود هو الابن الرابع للملك الثالث للمملكة العربية السعودية، ويأتي في الترتيب بعد الأمراء (عبدالله الفيصل - رحمه الله -، محمد وخالد).
وُلد في الطائف عام 1940، وحصل على تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرسة الطائف النموذجية، ثم لحق بأخويه محمد وخالد إلى الولايات المتحدة لمواصلة تعليمه العالي، والتحق بثانوية «هن»، وتخرج من جامعة برنستون عام 1965 بشهادة البكالوريوس في علوم الاقتصاد.
عمل بعد عودته عام 1966 مستشاراً اقتصادياً لوزارة البترول، ثم انضم إلى شركة بترومين، حتى أصبح نائباً لمحافظها عام 1970. في عام 1971 عُيِّن وكيلاً لوزارة البترول والثروة المعدنية ووزيرها الشيخ أحمد زكي يماني.
وفي عام 1975 انتقل من عالم الاقتصاد والنفط إلى عالم السياسة وزيراً للدولة للشؤون الخارجية خلفاً للسيد عمر السقاف، ثم وزيراً للخارجية بعد وفاة الملك فيصل، الذي احتفظ بحقيبة الوزارة منذ تأسيسها.
الوزير المثقف، المتعدد اللغات، هو أقدم وزير خارجية في العالم، خدم خمسة ملوك (فيصل، خالد، فهد، عبد الله وسلمان)، في أربعة عقود (1975 - 2015)، وبعد 11 سبتمبر قاد جهود المملكة في إعادة تعريف صورتها دولياً.
حذر علناً إدارة بوش بعدم غزو العراق، ورسم سيناريو لما يمكن أن يؤدي إليه هذا الغزو، وطالب مستشارة الأمن القومي الأمريكي كوندوليزا رايس بالتركيز على «القضايا الموضوعية الأساسية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي»؛ لأنها أس المشاكل في المنطقة.. وقد أثبت التاريخ أنه كان على حق.
في عام 2009 عيَّنه الملك عبد الله رئيساً للمجلس الاقتصادي الأعلى، الذي تم استبداله في يناير 2015 بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة ولي ولي العهد وزير الدفاع المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين، الأمير محمد بن سلمان.
الأمير سعود أب لستة أبناء (محمد وخالد وفهد وهيفاء ولمى وريم)، وله أنشطة خيرية واجتماعية، من بينها عضويته في مؤسسة الملك فيصل الخيرية، ورئاسته لمجلس إدارة مدرسة الملك فيصل وجامعة الفيصل في الرياض، وهو أيضاً عضو في الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وجمعية الأطفال المعاقين وجمعية المدينة المنورة للرعاية والخدمات الاجتماعية.
عانى الأمير البالغ من العمر 75 عاماً في السنوات الأخيرة من مشاكل حادة في الظهر والرقبة؛ وقد أجرى ما لا يقل عن ثلاث عمليات جراحية في ظهره، اثنتان منها في كاليفورنيا، وأخرى في مستشفى الملك فيصل التخصصي في جدة عام 2012. وفي 25 يناير 2015 أعلن الديوان الملكي السعودي أن الأمير سعود أجرى جراحة ناجحة في العمود الفقري بمستشفى متخصص في مدينة لوس أنجليس الأمريكية.
ورغم ما يبدو عليه من ألم ومعاناة، كان الأمير يواصل السفر والعمل بلا إجازات أو كلل أو ملل، حاملاً قضايا صعبة وهموماً ثقيلة على كتفيه المتعبَيْن. وقد عاد بعد أسابيع من إجرائه آخر عملية ونقاهة قصيرة في باريس لاستضافة وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض، حيث التقى مع وزير الخارجية الأمريكية جون كيري لمناقشة طموحات إيران النووية والإقليمية، وأعمالها التخريبية والتدميرية في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
كان ابن الفيصل قد أعلن أن أسفه الأكبر، في مسيرته الطويلة، هو أن المشكلة الفلسطينية، التي كرس والده الشهيد حياته لها، لم تحل، وأن أجيالاً من القادة العرب فشلوا في إقامة دولة فلسطينية.
بعد أربعين عاماً وزيراً للخارجية ينتقل عميد وزراء الخارجية في العالم ليشرف على الشؤون الخارجية للمملكة ومستشاراً خاصاً لخادم الحرمين الشريفين. فبلاده التي خدمها عمره كله تعتبره كنزاً من الخبرة والرؤية والقيادة التي لا نملك أن نفرط بها، خاصة في الظروف الحالية.
نتمنى له موفور الصحة والنجاح لمواصلة عطائه تحت قيادة الملك سلمان، وعلى خطى والده الملك فيصل، الذي كان أول وزير للخارجية السعودية، وأطول من تولاها عالمياً (1930 - 1975). آمين.