د. خالد محمد باطرفي
بعد أن عُيِّنت مسئولاً لتحرير مجلة المجلة عام 1984م، طلبت موعداً مع الأمير سلمان بن عبد العزيز - الملك الآن -، لا بصفته أميراً لمنطقة الرياض، وأحد أعمدة الحكم الرئيسية في البلاد، ولكن بصفته أمير المثقفين ووالد الإعلاميين، ومرجعية الثقافة والإعلام والتاريخ في بلادنا.
تحدد الموعد سريعاً، وسافرت إلى الرياض لأزوره في مكتبه بالأمارة، ولأقابله لأول مرة في حياتي. كنت قد تخرجت للتو من الجامعة، وانتقلت للتو من مجلة اقرأ التي عملت بها أيام الدراسة، مع رئيس تحريرها، مدرسة الصحافة، الدكتور عبد الله مناع، للعمل في الصحافة الدولية التي تمثلها جريدة الشرق الأوسط ومجلة المجلة. وهي انتقالة كبيرة بين الصحافة المحلية والدولية، تتطلب تحولاً فكرياً ومهنياً لا يستهان به.
رحب بي الأمير سلمان بابتسامته الساحرة، والتي تتأرجح بين الطيبة والحكمة، وتشعرك منذ الوهلة الأولى أنك تعرفه منذ زمن بعيد. شرحت له حيرتي، فقد جئت من صحافة مواطنة توجه رسائلها للمواطن السعودي، وأنتقل اليوم إلى صحافة مواطنة تتوجه بخطابها إلى القارئ العربي في بلده وفي المهجر. هناك تحول لا بد منه في اللغة وطريقة الطرح والتعبير، لا زلت أحاول أن أصل إليه، وأطمع أن يعينني بخبرته ويوجهني بإحاطته وحكمته لتحقيق ذلك.
ابتسم برضا وحسن ظن، لا بإشفاق وتعالم، وقال: نعم، أنت الآن تنتقل من لغة خطاب إلى لغة خطاب. ومن الطبيعي أن تختلف المفردات ويتغير الأسلوب. يبقى الصدق وتبقى المهنية وتختلف الوسيلة.
المواطن العربي لم يعد يتقبّل المديح والثناء. ومشاريعنا وإنجازات بلادنا ليست بحاجة إلى تقريض. كل ما نحتاجه أن تلقى الأضواء على هذه المشاريع بعلمية، وأن تقدم بالصورة والرقم والحقائق الناصعة، ثم نترك للقارئ أن يحكم عليها بنفسه.
خذ عندك مشروع القرية الشمسية خارج الرياض، لو أنك قمت بعمل تحقيق صحفي عنها، وعرضت للقارئ أهدافها ومزاياها، وشرحت فكرة إنتاج الطاقة المتجددة في بلاد لا تغيب عنها الشمس توفيراً للطاقة التقليدية، رغم ما أكرمنا الله به من احتياطات بترولية وافرة، فإنك ستشغل عقل القارئ وتغذيه بعلم ينفع، وفكر مفيد، وتعرفه في نفس الوقت ما وصلنا إليه من تقدم، ومن تخطيط مستقبلي، وإنجاز علمي، بدون أن تمدح أحداً أو تعطي رأيك الشخصي في هذا الإنجاز.
الديمقراطية فكرة تقوم على الشورى
أبهرني ما سمعته من الأمير، وأكد لي ما تنامى إلي عن فكره وثقافته، وتساءلت في نفسي لماذا لم أسمع هذا الكلام من جهابذة الإعلام وأساتذتي في الجامعة؟
سألته بماذا نرد على من يتهمنا بالتخلف لعدم تطبيق الديمقراطية الحديثة ومفاهيمها في الحكم والإدارة؟
أجاب: سألني أخ مصري شقيق نفس السؤال. فسألته من أي بلدة أتيت؟ فقال من كفر كذا. قلت: هل تستطيع في قريتك أن تجلس في ديوان العمدة وأن تبدي رأيك وتطالب بحقك وتناقش قضايا البلدة؟ قال: لا! قلت: أنظر إلى مجلسي كل صباح، وإلى مجالس غيري من المسئولين في القرى والمدن الصغيرة والكبيرة، بل وإلى مجلس ولاة أمرنا، لتجد أن الصغير والكبير، الغني والفقير، يقدم برأيه وشكواه فيجد من الحاكم والمسئول رحابة الصدر وحسن الاستماع وسرعة النظر في وجهة نظره أو مطلبه.
أليست هذه ديمقراطية؟ أليست هذه شورى؟ هل يجب أن يكون للديمقراطية شكل معين وصورة بعينها، أم أنها مبدأ وفكرة تقوم في نسختها الإسلامية على التعاون على البر والتقوى، وعلى التواصل بين الراعي والرعية، وعلى الشورى التي أمر بها رب العالمين ومضى عليها سيد الخلق أجمعين، صلوات الله وسلامه عليه؟ هل المهم توصيف الوسيلة أم تحقيق الهدف؟
فهمت من أستاذي سلمان أنني كصحفي سعودي يجب أن أتحسس مواقع قوّتي وتقدمي في تواصلي وحواري مع الآخرين، وأن لا أشعر بالدونية لمجرد أنني لا أسير على النهج الذي يرونه الأفضل والأجدى. فنحن بخير، وهذا الخير لم يأت إلا من أسلوب حياة اخترناه وارتضيناه وسرنا عليه. ولكل شعب الحق في اختيار ما يصلح له، ولكل مثقف الحق في الاقتناع بما يراه طريقاً للإدارة والحكم في بلده، بدون أن يفرض رأيه وأسلوبه على الآخرين، والعبرة بالنتائج لا بالوسائل.
تجاوب سلمان الثقافة والإنسانية
خرجت من عنده لأطبق ما تعلمته، وأنقله لزملائي في الصحافة السعودية الدولية، حتى واتتني الفرصة بعد عقد من الزمان لمواصلة دراستي العليا في الولايات المتحدة، في المجال الذي اخترت، الصحافة والعلوم السياسية.
حصلت على الماجستير، ثم نضبت مواردي، فتقدمت للحصول على بعثة حكومية ولم أستطع. كتبت إلى كل من عرفت من المسئولين ولم أجد تجاوباً، ثم خطر لي أن أكتب لوالد المثقفين، سلمان، رغم أنه كأمير لمنطقة الرياض، ليس معنياً بطلبي.
جاءني التجاوب بأسرع مما توقعت، فقد اهتم بأمري وتابع معاملتي حتى تم إنجازها، واتصل بي وكيل وزارة التعليم العالي، الدكتور فهد بن عبد الله السماري، مبشراً بصدور الأمر بضمي إلى بعثة وزارة التعليم العالي، ووعدني أن يتم إنهاء الأمر خلال أسابيع، مع رجاء أن أتوقف عن متابعة المعاملة، وأبلغ من وسطته بأنها تمت. أستغربت لطلبه، وأكدت له بأنني لم أتابع ولم ألح. وأنني كتبت لأكثر من مسئول، ولا أدري من يقصد. تعجب بدوره لردي.
عرفت منه وتأكدت فيما بعد من مكتب الأمير الذي اتصل بي في نفس اليوم ليبشرني بصدور الموافقة، أن المتابعة الدقيقة كانت تتم من الأمير سلمان، حفظه الله، رغم أنني لم أتابعه.
خطاب الصحافة المحلية يختلف!
عندما عدت بعد حصولي على الدكتوراه تعينت رئيساً للشئون المحلية في جريدة الوطن، وكانت على وشك الصدور، فطلبت موعداً آخر مع الوالد الحبيب، سلمان.
استقبلني مرة أخرى، وبين المرتين خمسة عشر عاماً، فقد كنا في العام 2000م، مطلع القرن الميلادي الجديد. ولكنه لم ينس شيئاً، ولم يغفل شيئاً (ما شاء الله)، وكأنّ لقاءنا الأول كأنه البارحة.
بشرّته بتخرجي، وأنني رزقت ولداً أسميته سلمان، وسلمته رسالة الدكتوراه، فبارك لي وقلب الرسالة، وقرأ عنوانها باللغة الإنجليزية، وترجمها إلى العربية، وكانت عن التحيز الإعلامي الأمريكي لإسرائيل. ثم سألني بضعة أسئلة دقيقة عنها، وعن نتائجها، وعن ردود الفعل حولها في محيط الجامعة والإعلام الأمريكي.
سألني عن طلبي، فقلت له: زرتك المرة الأولى في مكتبك القديم، وسألتك ما الذي تنصحني به في مخاطبة القارئ العربي، عبر وسيلة صحافة سعودية دولية، فوجهتني بكتابة الحقائق بدون توصيف، ومضيت على ما وجهتني. واليوم أزورك في مكتبك الجديد في قصر الحكم، وبين الزيارتين خمسة عشر عاماً، لأبلغك أنني عينت في جريدة محلية مسئولاً عن الشئون المحلية، وأسألك هل أمضي على نفس النهج الذي وجهتني به؟
تبسّم، حفظه الله، ابتسامته العريضة الساحرة، ورد: الآن اختلف الوضع. كنت في الصحيفة الدولية تخاطب عقل القارئ العربي، الذي يكفيه معرفة الحقائق، فالمشاريع والإنجازات لا تعنيه مباشرة. أما الآن فأنت تخاطب عقل المواطن السعودي، وهو معني بكل هذه المنجزات والمتغيرات والأحداث التي تجري في بلده، ولذا فهو بحاجة إلى رأيك وتحليلك وتفسيرك.
أبهرني مرة أخرى، وخرجت من عنده لأطبق ما تعلمته على يد أستاذ صحافة وإعلام، مما لم أجده في الكتب التي قرأت، والمناهج التي درست.
(ما نسيناكم!)
مضت السنوات، ولم أسعد برؤية الأمير المثقف مرة أخرى، حتى جاءني اتصال من الدكتور عبد العزيز خوجة، وزير الثقافة والإعلام، العام الماضي، ليبلغني أنّ الأمير طلبه في مجلس الوزراء ليسأله عني، وعن آخر كتبي في مجال السير الذاتية والتأريخ الشفوي. وأن يبلغني رسالة:
«وينك فيه؟ سلمان يدورك!»
تحدد موعد لمقابلة الأمير سلمان، وقد أصبح ولياً للعهد، في مكتبه بالديوان الملكي بجدة، بعد يومين. ذهبت لموعدي فوجدته قد دعا معي الأحبة يعرب وقحطان وعمر، أبناء الشيخ عبد الله بلخير، أحد رجالات الملك عبد العزيز، رحمه الله. تحدث حفظه الله قرابة الساعة عن ما ورد في الكتاب، بالفصل والصفحة، وعما يمكن أن أضيفه في أي طبعة جديدة، وعن كتبي الأخرى التي قرأها لذكريات الأمير محمد الفيصل والشيخ أحمد صلاح جمجوم. وسألني إن كان هناك غيرها، مما صدر أو سيصدر. سألته معجباً ومتعجباً متى يجد الوقت ليقرأ هذه الكتب؟ فتبسّم موضحاً: قبل أن أنام، وفي السيارة، وفي كل فرصة تتاح لي.
أعطيته بقية القائمة، ووعدته أن أواصل نشر ما لدي من مذكرات خلال الشهور القادمة. فعلت وجهه المضيء ابتسامة رضا، ثم تبدلت بقلق، وقال: ولكن من يضمن لنا أن يقرأها الشباب؟ المشكلة يا خالد أنّ الشباب اليوم لا يقرأ، وهم الأكثر حاجة للقراءة لكي يعرفوا أنّ هذه البلاد لم تقم على كتف المؤسِّس العظيم وحده ومن كان معه من المجاهدين، ولكن أيضاً على أكتاف كل من صنع أو كتب أو عمل أو أنجز بإخلاص وإبداع لبلده. كل هؤلاء بناة بلد وحضارة وصنّاع تنمية. ولذا من المهم أن يعرف كل شاب أنّ له أباً أو جداً ساهم في تنمية البلاد، وهم أيضا يستطيعون أن يشاركوا بأفكارهم ومبادراتهم ومشاريعهم وأن يصبحوا كآبائهم من بناة البلاد. وأن أخوة لنا عرب ومسلمين ساهموا أيضا في تنمية البلد، معلمين ومهندسين وأطباء وبنّائين، (كما ورد في المذكرات)، ولهم علينا حق الاحترام والتقدير، فكيف نوصل محتوى هذه الكتب إليهم؟
قلت: الحل في رأيي أن نصل بالمحتوى إلى الشباب بالطريقة التي يفضلونها، عبر الإعلام المتعدد والحركي، ووسائل التواصل الاجتماعي،. وعندي مشروع بارك الله في عمرك إذا رأيتم أن ترعوه أرجو أن يحقق هذا الهدف، وهو أن نحول هذه الكتب إلى حلقات تلفزيونية وثائقية، تذاع أيضا في اليوتيوب وتناقش في تويتر والفيس بوك، إضافة إلى الصحف والمجلات. وعندي قائمة طويلة برجال ونساء قدموا الكثير لبلادهم ولم ينصفهم التاريخ، وقد اخترت للمشروع عنوان (ما نسيناكم!)، وأن يكون تحت رعايتكم.
أشرق وجه الأمير المثقف بابتسامة سعيدة، متحمسة، وسألني: متى تقدم لي هذا المشروع؟ قلت: لقد قدمته بالفعل، وهو على مكتبكم، سلمتك إياه عندما سلمت عليك. نظر بدهشة إلى المظروف الذي سلمته، واطلع عليه سريعاً، ثم قال: على بركة الله. متى نبدأ؟
قلت أنا في طريقي لمقابلة معالي وزير الإعلام الآن، وسأعرض عليه المشروع، وأبلغه بموافقتكم. قال: تم!
خرجت من الديوان ووصلت مكتب الوزير خلال ربع ساعة، لأجد الدكتور عبد العزيز خوجة في انتظاري وهو يقول متحمساً وسعيداً: وصلني فاكس من مكتب ولي العهد، بتوجيه من الأمير سلمان، باعتماد مشروعك، وطلبني الليلة لمناقشته. إمكانات الوزارة كلها تحت تصرفك، متى نبدأ؟
كان هذا منذ عام، والمشروع الذي قدمته انتهى لدى معالي رئيس هيئة الإذاعة التلفزيون، عبد الرحمن بن عبد العزيز الهزاع، الذي تحمس له ووعد بسرعة اعتماده، وهو ما أنتظره.
الأب والابن .. ورياضة الثقافة
أما الأمير سلمان، فقد التقيته مرة أخرى في منزل الشيخ عبد الرحمن فقيه في مكة المكرمة، بنهاية رمضان الماضي، ووصلني منه الترحيب والتشجيع على الكتب الخمسة التي تمكنت من إعدادها وطباعتها كما وعدته.
وعندما سألتني نادين البدير، في برنامجها «اتجاهات» بقناة «روتانا خليجية» والحديث عن الملك المثقف والمؤرخ سلمان: هل أتوقع أن يواصل الملك اهتماماته الثقافية بعد تولي الحكم، قلت: إن الثقافة تجري في المرء مجرى الدم، وصاحب العقل والحكمة لا يغفل عن موارد فكره وعلمه وثقافته.
تذكرت في هذا السياق ما نشره عبد الله (جون) فيلبي في مذكراته عن المغفور له الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن، وكان وقتها سلطان نجد وملحقاتها. فقد وصف رجلاًَ مثقفاً يسامر مستشاريه من مثقفي العالم العربي والعالم، في شرفة قصر المربع، ويحاورهم في قضايا الساعة والثقافة والتاريخ والأديان. وعلق فيلبي بأن ابن سعود، الذي كان لا ينام إلا قليلاً، يستمتع بالمناظرة والمحاورة والنقاش العلمي. ولما سأله عن سر ذلك، أجابه السلطان المثقف: الفروسية رياضة الأبدان، والثقافة والمحاورة رياضة العقول.
سيبقى سلمان ملك الثقافة والمثقفين، ومرجعية الإعلام والإعلاميين، وسنبقى له منصتين، ومتعلمين، ومحبين. حفظه الله وبارك في عمره وعمله ولا حرمنا أبوته الحانية، ومرجعيته المعلمة، ورعايته لشعبه وأُمته.