د. خالد محمد باطرفي
كنا في منتصف العام 1400هـ، 1980م، عندما صدرت قرارات ملكية بتعيين عدد من أصغر أبناء الملك عبدالعزيز- رحمه الله- أمراء للمناطق. عين الأمير ماجد (الابن السادس والعشرون)، أميرا لمنطقة مكة المكرمة، والأمير عبدالإله (التاسع والعشرون) أميراً لمنطقة القصيم، وشقيقه الأمير عبدالمجيد (الثالث والثلاثون) أميرا لمنطقة تبوك، والأمير مقرن (الخامس والثلاثون) أميراً لمنطقة حائل، وكان قد بلغ الخامسة والثلاثين من عمره!
لفت نظري حينها أن الأمير مقرن عسكري محترف، وطيار حربي تدرب في بريطانيا، وتخرج من أهم الأكاديميات العسكرية فيها، وظل يعمل في القوات الجوية حتى صدور قرار تعيينه أميرا لمنطقة حائل.
كما لفت انتباهي أنه الطيار الحربي الوحيد من أبناء الملك الموحّد عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وأنه أصغر أبنائه حينها، وأول أمير منطقة يأتي من خلفية عسكرية.
وزاد اهتمامي ما سمعته من سكان حائل وزوارها، عن تواضعه الشديد، وعملانيته وفعاليته وواقعيته كحاكم إداري. فالأمير الشاب كان من أول المداومين، وآخر المغادرين. ومجلسه مفتوح للكبير والصغير، للمواطن والمقيم، ولعابر السبيل.
لم تكن بحاجة لأخذ موعد لتعرض عليه حاجتك، وليس هناك حُجّاب على باب مكتبه، وبيته مفتوح لكل زائر. تراه يقود سيارته، ويقف على إشارات المرور، ويمشي في الأسواق مع أبنائه وأصدقائه، بلا حراسة ومرافقة رسمية. كما كان يمارس هواياته الرياضية واهتمامه بالزراعة وتعلقه بالطبيعة وحرصه على حماية البيئة في مزرعته.
كان أبو فهد شابا متحمسا، دخل قلوب الناس، وكسب رضاهم وحبهم. لم يستأثر أو يتعالى عليهم، وسخر وقته وجهده لحل قضاياهم، وتلبية مطالبهم، وتوفير أمنهم وأمانهم. وعلى ما تتسم به العسكرية من صرامة وحزم، إلا أنه كان يخلط ذلك بدماثة خلقه، ولطفه وطيبة قلبه.
وعندما انتقل بعد عشرين عاما، إلى المدينة المنورة، عام 1420هـ، 1999 م كان قد سبقه إليها الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز منتقلا إليها من إمارة تبوك، عام 1406هـ - 1986م فحط بها سنوات طويلة، أميراً على مدينة الرسول صلوات الله وسلامه عليه وحاكما إدارياً للمنطقة في فترة من أهم فترات تطورها وتوسعة المسجد النبوي الشريف والمنطقة المركزية فيها، قبل أن يغادرها عام 1999م، أميراً لمنطقة مكة المكرمة.
أدهش الأمير مقرن أهل طيبة الطيبة، وكسب احترامهم ومحبتهم بتواضعه الجم، وكفاءته الإدارية، وتفانيه في عمله، ونزاهته الشخصية وأسرته، وقربهم من الناس. فتح أبواب مكتبه وداره لهم، طوال أيام الأسبوع والسنة، مستمعا وموجها، متفاهما ومناقشا، أخا وأبا، مثقفا وأميرا، يشاركهم أفراحهم و مناسباتهم وأعيادهم، ويقف معهم وإلى صفهم في أحزانهم ومعاناتهم واحتياجاتهم.
وعندما التقيته في مكتبه بالإمارة، عام 1425هـ-2005م مع وفد من جريدة المدينة المنورة، يتقدمه مديرها العام وقتها، محمد الفال، ورئيس تحريرها الدكتور فهد عقران، كان أبو فهد في غاية الحيوية والدماثة واللطف، أثار اهتمامنا وتقديرنا بثقافته العامة، وتمكنه من اللغات والمعارف العالمية، ودقة ملاحظاته، ومتابعته الدقيقة لأحداث الساعة، وأحوال المنطقة.
سألته يومها عن مشروعه للحكومة الإلكترونية في منطقة المدينة المنورة، فأضاء وجهه سعادة وهو يعبر بحماس عن فخره بفريق الشباب المديني الذي استطاع أن يفوز بجوائز في مجال الأتمتة الإدارية في الإمارة والدوائر الحكومية، وأن يطور برامج معرّبة متطورة بأدوات ومواصفات محلية، مفصّلة على احتياجاتنا. ويروي ويفصّل في الإنجازات التي تحققت، والخطط التي وضعت والأهداف التي يتطلع إلى تحقيقها.
كانت لغة الأمير التقنية تشي بخبرته وتمكنه في هذا المجال، كما تظهر حماسته العالية إيمانه بدور الشباب وكفاءته، وتصوره لمستقبل الخدمة الحكومية السهلة والسلسة والميسرة للمواطن، باستخدام أحدث أدوات التقنية. وهي صفات يتوافق فيها مع الأمير محمد بن نايف ولي ولي العهد، ووزير الداخلية، الذي نقل وزارته إلى مصاف الدول المتقدمة في مجال الخدمات الإلكترونية، والأمير محمد بن سلمان، رئيس الديوان الملكي ووزير الدفاع ومستشار الملك، الخبير في وسائل التواصل الاجتماعي، والمتوثب للتطوير الإداري على أسس حديثة، والمتحمس لتمكين الشباب وإثبات جديتهم وجدارتهم (كما سيأتي الحديث في مقالات قادمة).
ولما انتقل الأمير مقرن إلى الاستخبارات، عام 2005، رئيساً لها، نقل معه هذه الروح، وهذه الثقافة العالمية، والحماسة المحفّزة للتطوير والتحديث والسلاسة الإدارية، وتلك الشفافية. ومرة أخرى يفاجئنا أبو فهد بفتح أبواب الاستخبارات المغلقة أمام المواطنين ورجال الأعمال، للتعرف على أعمالها وأنشطتها، وإزالة أية تصورات غير صحيحة عنها.
فالاستخبارات السعودية، كما عُرفت في الأوساط الدولية، تتميز بالمهنية والرقي والتخصص وعدم الخوض في مالا يخصها من شئون، مهمتها حماية الوطن، وإعانة القيادة على اتخاذ القرارات بإطلاعها بدقة وشمول على ما يدور في محيط البلاد، وكشف وإحباط ما يحاك لها. ولا يوجد لديها الخلط الذي يحدث في بعض البلدان بتداخل العمل المتخصص في جمع المعلومات ومواجهة الاستخبارات المعادية، وهو استعلامي ودولي في أغلبه، بالشئون الأمنية والجنائية الاستعلامية والتنفيذية المحلية، مما يقع في اختصاص الجهات الأمنية الداخلية.
ثم انتقل المسئول المخضرم عام 1433هـ - 2012م ليكون أقرب إلى أعلى هرم القيادة في بلاده، مستشارا ومبعوثا خاصا لخادم الحرمين الشريفين، فقام بأعمال وكلف بملفات ومهام دولية عرفنا قليلا منها، وغاب عنا أكثرها، بحكم حساسية هذه الأنشطة وسريتها، فحاز ثقة المليك وولي عهده، واكتسب خبرات إدارية وعلاقات دولية هامة، مما أهله لتولي منصب النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، في العام التالي، 1434هـ - 2013م، ثم منصب ولي ولي العهد العام الماضي، 1435هـ - 2014م، وهو منصب يستحدث لأول مرة. فقد قضى الأمر الملكي أن «يُبايع صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز آل سعود ولي ولي العهد، ولياً للعهد في حال خلو ولاية العهد، ويبايع ملكاً للبلاد في حال خلو منصبي الملك وولي العهد في وقت واحد.»
وها نحن اليوم، في مطلع العام 1436هـ - 2015 م، نبايع الأمير مقرن بن عبدالعزيز، آخر أبناء مؤسس الدولة السعودية الثالثة، ولياً مؤتمناً لعهد أخيه ملكها السابع، سلمان بن عبدالعزيز، ونعلن لهما السمع والطاعة، ونمضي تحت لوائهما ولواء طليعة أحفاد صقر الجزيرة، ولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، لنواصل مسيرة التنمية لبلاد الحرمين الشريفين، وصدر العروبة، وندافع بأرواحنا تحت قيادتهم وراية الشهادتين عن وحدة الوطن، وأمن المواطنين.