د. خالد محمد باطرفي
قالت الأم المكلومة لأولادها في لحظة ضيق.. «اتصلوا لي على محمد بن نايف!» لم يجرأ أحد منهم، فصاحت بهم عطوني سنترال الداخلية، وأنا أطلبه. ترددوا، ثم أوصلوها بالداخلية، ورد عليها مكتبه معتذرا بعدم وجوده وسألوها عن مطلبها، فقالت: ابني.. مقدر أشوفه.. حاطينه بالرياض وأنا في ثول. يا تفكونه.. يا تجيبونه قريب!»
أخذ الموظف الاسم والمعلومات المطلوبة.. ووعدها بأن يوصل رسالتها للأمير. وضعت السماعة وبقيت بجوارها تنتظر. أشفق عليها أبناؤها، ونبهوها أن الدوام انتهى، والأسبوع انتهى، ولا أمل في اتصال إلا في أول الأسبوع، فردت بإيمان العجائز (يبلغه وببرد!)
وبالفعل، بعد ساعات رن الهاتف، فردت عليه من أول رنة، وبدا أنها تتكلم مع أحد من الداخلية.. فقد كانت «تهاوش» وتشرح مشكلتها.. ثم بدا أن الطرف الآخر على الخط استطاع تهدئتها، فقد قالت لأبنائها بابتسامة رضا: (يبيكم.. كلموه!).
رد أحدهم، ففوجئ بمن يقول له: (مساك الله بالخير، معك محمد بن نايف. واضح أن الوالدة متأثرة، الله يعينها، معذورة.. هذي أم والأم لا بد تشوف عيالها وتطمن عليهم. وعدتها أني يا أحول الولد لسجن جدة، يا نرتب لكم تجونه بالحاير على حسابنا. المهم هونوا على أمكم وخلوكم حولها.. الأيام هذي صعبة عليها! الله يهدي أخوكم.. ويتقبل المناصحة.. ويرجع لكم أحسن مما كان، وتفرحون به!)
يقول أحد أقرباء الأم المكلومة.. كان موقفا لا ينسى! لم نتخيل أبدا أن نجد هذا التجاوب السريع من الداخلية، فضلا عن أن يأتي من الأمير محمد بن نايف شخصيا. وعد ووفى.. ولا تزال الأم الصالحة تدعو لابنها محمد بن نايف في كل صلاة، ولعل ما أصابه من توفيق وحماية من رب العالمين يعود لدعوات أمهات وزوجات وبنات وأسر ابتلاها الله بأبناء حادوا عن الطريق كحال هذه الأم المسكينة.
روت أم أخرى، ابتلاها الله بابن يتزعم فئة ضالة، ويشكل خطرا على بلده ومجتمعه، أن الأمير الإنسان، محمد بن نايف، كان يتصل بها بين حين وحين ليطمئن على أحوالها، ويسألها في كل مرة ما إذا كان هناك ما يمكن أن يقدمه لها. وأحيانا تطلب وأخرى تتعفف. وذات مرة طلبت منه السماح لها بالسفر، فشرح لها بكل لطف وتفهم أن المنع جاء حماية لها، فابنها طليق، ومطلوب من دول وجهات أجنبية، ويخشى عليها وعلى أسرتها من أن تتعرض لأي مكروه. ثم رتب لها السفر إلى بلدان آمنة بعد التنسيق مع وزارات داخليتها لتأمين الحماية الكاملة لها ولأسرتها.
رويت ما سبق لبعض القنوات الفضائية، وقلت لإحداها: إنسانية هذا الأمير وحضاريته تتجسد في مشروعه الذي يكلف البلايين لبناء سجون جديدة أسماها «إصلاحيات»، تضاهي في مواصفاتها المعايير المتبعة في الدول المتقدمة. يضاف إلى ذلك ما قام به من توفير بيوت مجهزة للسجناء المتزوجين داخل الأسوار للقائهم مع أزواجهم، والسماح لهم بزيارة أسرهم في الظروف الخاصة، كالوفاة والمناسبات السعيدة. مع تشجيعهم على مواصلة دراستهم إلى أعلى المراحل، بالتعاون مع التعليم والجامعات. وتدريبهم على المهارات التي تساعدهم على إيجاد أعمال بعد «التخرج» من «الإصلاحية».
على أن أعظم إنجازات الأمير الإنسان هو «مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة»، فقد قام المشروع الرائد على مبدأ أن الضلال كالمرض، يمكن أن يعالج. والضال يستحق فرصة أخرى. والمجتمع يحتاج أبناءه حتى ولو ضلّوا.. بعد أن يطهروا النفس مما أذنبت، والعقل مما ابتلي به.
وبالفعل، فقد نجح المركز في تخريج الآلاف ممن عادوا إلى أسرهم وأعمالهم ومجتمعاتهم بروح جديدة، وتجربة ناضجة، وعلم وصنعة، ليعوضوا ما فاتهم ومن فاتوه، ويردوا لبلادهم دينها بالمشاركة في تنميتها وحمايتها ورفعتها، ولم يخيب الظن إلا نسبة ضئيلة من المتخرجين، فعادوا إلى سابق غيهم، كما يعود المدمن إلى إدمانه بعد تعاف.
الأمير محمد بن نايف (55 عاما)، جنرال الحرب على الإرهاب، كما وصفته شبكة MSNBC الأمريكية، لم يكن يعرف، ربما، أن قدره سيقوده إلى ما قاده إليه. فقد اختار لدراسته في الولايات المتحدة تخصص العلوم السياسية، ولعمله بعد عودته عام 1401 هـ - 1981 م القطاع الخاص. ثم جاء نداء الواجب، عام 1320هـ - 1999م فلبّاه. وواصل دراسته، ولكن هذه المرة في مدرسة والده الأمير نايف بن عبدالعزيز، رحمه الله، فاستفاد من حكمته وتجربته وخبرته الطويلة في العمل الحكومي. كما استفاد من دورات عديدة في مكافحة الإرهاب في دول متقدمة، ولعل وجد ذاته وقدره في عمله الجديد كمساعد لوزير الداخلية للشئون الأمنية، فأبدع فيه، وجاء الامتحان الأول والأكبر بعد أحداث سبتمبر عام 2011م.
وبقدر حجم التحدي، كانت الحماسة والإصرار، فانتقلت الأجهزة الأمنية من الدفاع إلى الهجوم، ومن الرد إلى الضربات الاستباقية، وهكذا فبعد سنوات قليلة كانت العمليات الإرهابية يتم إفشالها في مرحلة الإعداد والتحضير، والإرهابيون يقعون في قبضة الأمن خلال عملية تهريبهم إلى داخل البلاد، أوأثناء تنقلهم واختبائهم. وقدرت القيادة له إنجازاته، فصدر قرار بتعيينه وزيرا للداخلية، عام 1433 هـ - 2012م.
ومنذ البداية، حرص الأمير محمد على تطوير أجهزة الداخلية وخدماتها، وأدخل الوزارة عصر الحكومة الإلكترونية سابقة لغيرها. حتى وصلنا لمرحلة أصبحت الجوازات والإقامات والوثائق الرسمية المختلفة تجدد عبر النت، ومكاتب الأحوال المدنية والجوازات تنتشر في المولات، وتداوم كالقطاع الخاص، وإجراءات الحوادث المرورية الأولية تتم عبر شركة خاصة، أو باستخدام كاميرا وبرنامجا خاصا في أجهزة الهاتف النقال، ووصول سيارات الشرطة إلى مواقع الحدث يتم في دقائق، وتتبعها اتصالات تقييم خدمة، والمعاملات يمكن متابعتها عبر موقع الوزارة الإليكتروني، أو من خلال رسائل الجوال، وذوي الإعاقات أو السن المتقدم يتلقون خدمات الأحوال المدنية في بيوتهم، وسيارات الأمن العام مزودة بكاميرات وحاسبات آلية متصلة لا سلكيا بشبكة متكاملة وبالخادمات المركزية في الوزارة. ولازالت المفاجآت تترى والخدمات تحدث وتتطور بشكل مستمر.
تتميز شخصية الأمير محمد بالهدوء والطمأنينة والبعد عن الأضواء، فهو قليل الكلام، كثير العمل، وهي شخصية تتفق مع ما تتوقعه من رجل الأمن الأول، وإن كانت تحافظ على ما تميز به من صفات قد لا تتوقعها من جنرال الحرب على الإرهاب: التواضع وسعة الصدر والحس المرهف والخلق الكريم.
وفي هذا العام، 1436 هـ - 2015 م، يتلقى الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز أعلى أوسمة الثقة والتقدير من قيادته وشعبه بتعيينه ومبايعته وليا لولي العهد. وفقه الله وحماه وسخر له وأعانه، وأعاننا على عونه ومساندته وتعضيده. (وللحديث بقية عن: محمد بن سلمان «القانوني»: عصر الشباب!)