د. محمد البشر
التقنية بيئة جديدة, على العالم أن يتعامل معها وأن يشارك في صنعها وتوفيرها وتطويرها والاستفادة منها, ومن لم يكن كذلك فقد سبقه الزمن, وتجاوزه بلا مراء, ومن لم يحسن استخدامها فهو أمي هذا الزمان, كما كان الذي لا يجيد القراءة والكتابة أمياً ما مضى من حقب, ولم تعد التقنية قاصرة على مجال بعينه, فقد أصبحت جزءاً من حياتنا كاملة, في مأكلنا, ومشربنا, وملبسنا, واتصالاتنا, وتنقلاتنا, واقتصادنا, وسياساتنا, وصحتنا, واقتتالنا, وحتى حياتنا الأسرية والاجتماعية.
التقنية باب واسع, لم يكن لعالمنا العربي نصيب في تطويرها، لكننا مع العالم أجمع نستخدمها في الخير والشر, والاستقرار والفتن, والسلم والحرب, ونحن من نختار بقدر ما تمليه علينا عقولنا, وما تراكم من إرث ثقافي عبر سنين، ربما لم تغيره المتغيرات, ولم تحسنه الكتب والكتابات. والمقال سيتناول حدثاً جديداً تم في الأسبوع الذي مضى بتقنية جديدة قديمة, وهي محاولة الطيران حول العالم بطائرة تعمل بالطاقة الشمسية, وكان صاحب فكرتها حفيد رجل مغامر, ويقال له برنارد ريكارد سويسري الجنسية من مدينة لوزان.
كان جده أول من طار بالمنطاد قاطعاً المحيط، وكان والده أول من وصل إلى قاع البحر على بعد أحد عشر كيلومتراً, ليكشف جمال الطبيعة التي صنعها الله في ذلك القاع السحيق, وتحت الضغط الجوي الشديد, لكنها سمة المغامرين والمستكشفين, وكذلك العلماء, الذين لا يثنيهم عن بلوغ المرام, العقبات المتلاحقة التي يسعون ما وسعهم للتغلب عليها, والظفر بالكسب العلمي, والتميز بالإنجاز, وذلك لا يقتصر على المجال العلمي, بل يمكن أن يكون ذلك في الرسم, والخط, ولعب الكرة, والنشيد.
برنارد ريكارد أراد أن يماثل جده في التحليق بالمنطاد, وقطع مسافة أطول منه, وقد حقق ذلك من خلال جولة قام بها حول العالم, وتم له ذلك, وكان يحمل معه نحو ثلاثة أطنان من الوقود الأحفوري المعتاد, لكنه كاد أن يسقط بمنطاده في صحراء مصر حيث نفد وقوده, ولم يبق سوى ثلاث كيلوجرام فقط من الوقود أنقذه الله بها حيث نزل إلى الأرض بأمان.
لقد كان لهذه التجربة الفريدة, وتجاوزه هذه المحنة الكبيرة التي كادت أن تودي بحياته, الأثر الكبير في نفسه, فقرر في ذاته أن يطير حول العالم دون حاجة إلى وقود. وهكذا بدأت فكرة التحليق حول العالم باستخدام الطاقة الشمسية, ففكر وقرر, واستعان بصديق له كان طياراً حربياً مميزاً, اسمه أندريه بورسرج السويسري أيضاً, واتفق الاثنان على القيام بمشروع جديد يكون له السبق في عالمنا الحاضر, وبعد أن تجسدت الفكرة في عقليهما، ورسمت الخطة لذلك كان لزاماً عليهما أن يلتفتا إلى الممولين الكبار للمساعدة المالية في هذا المشروع الفريد, وكانت الوجهة صوب الشركات الكبيرة أو الحكومات, وهما الجهتان في العالم اللتان تملكان المال الكافي أو ربما الفائض, وعلى أقل تقدير, القادر على المساهمة في مشروعهما دون التأثير على أعمالهما المعتادة.
وكان الاتصال بعدد من الشركات أذكر منها أي بي بي, ونيسلا, وباير, وجوجل, وآخرها مصدر الإماراتية, والغريب في الأمر أن شركات الطيران, مثل بوينج أو تراي ستار لم تشاركا في هذا المشروع رغم أنه يصب في مجالهما التجاري.
قام الرجلان بعمل الخطط اللازمة بمساعدة الخبراء في كل مجال, واستقر الأمر على تصنيع أول طائرة قادرة على الطيران حول العالم دون استخدام أي وقود أحفوري, والاعتماد الكامل على الطاقة الشمسية, فكان مولد سولار إمبلس الطائرة التي يمتد جناحها أربعة وستون متراً, ويبلغ وزنها نحو طن ونصف تقريباً, وهي مرصعة بنحو أثني عشر ألف خلية شمسية, ويمكنها الارتفاع إلى نحو أربعة وعشرين ألف قدم, ولذا وعندما تصل إلى ذلك العلو فإنه يلزم وضع كمام للحصول على الأوكسجين اللازم. وصنعت مستلزمات الطيار من غذاء ودواء وملابس ونحوها, وصنعت أجزاؤها وحملت إلى أبوظبي, قطعة قطعة حيث جمعت, وحلقت لأول مرة في سماء أبوظبي, وشاهدتها بعيني, وقابلت مخترعها السيد برنارد وتحدثت معه حولها, فذكر أن تجربته الأولى التي تمت بالأمس كانت ناجحة مع قليل من المشاكل البسيطة التي لا تذكر, وسوف يتم حلها. بقي أن نقول إن تكلفتها نحو مائة وخمسين مليون دولار, وأن من يعمل لإنجاحها أكثر من مئة شخص.