كنت قد تعودت الطرح العربي إزاء الثقافة الغربية فهو مابين داع إلى صدها والإعراض عنها وإما موغل فيها متأثر بها وتبع لذلك فالأول يظهر قبيحها ويغض الطرف عن محاسنها وإذا افترضنا حسن الظن فهو يجهل تلك المحاسن، ويكون الآخر على نقيض الأول فهو يظهر محاسنها ويفاخر بآدابها ولا يشير إلى ما كان رافدا لها من ثقافته العربية ولا يعنينا بعد ذلك مايضمره خلف قلمه. ولازلت اتنقل بين طرائق هذه الكتب وقد أجد أحيانا من يعرض كتابه مثل قائمة سردية للمخترعات الغربية ثم ينسبها إلى آباءها العرب، ومع هذه الأنساق غالبا ماتكون العاطفة المنحازة حاضرة. وبين هذه الآراء القلمية تقلبت من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال. أخيرا قرأت مقالا للأستاذ سعد الصويان يعرّف بكتاب صدر حديثا عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في 250 ص للكاتبة سمو الأميرة مها الفيصل، كان عنوانه «أمة على رسلها، تأملات من بلاد العرب» كان العنوان الذي يتكأ على لغة عربية جزلة، كاف لحملي على قراءة الكتاب والحق أن الكتاب اتخذ له طريقا مغايرا، وبأسلوب هادئ رصين ولغة قوية كان يعرض تأملاته بعيدا عن التزمت والضجيج، إذ اتخذ من حضارته الشرقية العربية قاعدة وانطلق منها بلغة قوية يعرض أولا دور اللغة وأهميتها للإنسان قبل كل شيئ ثم الحضارة التي هي دليل إنسانيته، وجدت في الكتاب إصراره القوي على بث روح الثقة في الإنسان العربي بصده عن الذوبان في الحضارة الغربية وذلك بأسلوب تعريتها وإظهار جذورها الأولى التي نبتت من بذور شرقية. والكتاب حين يعرض ذلك بلا تحيز يسند قناعاته بمصادر أجنبية شتى، فقد يرجع بك إلى عصور الإغريق أو الأباطرة البيزنطيين ليجلو لك حقيقة خافية أو يسترد إرثا مسلوبا يقول الكتاب في مطلع فصل عن أوروبا «أوروبا في الأساطير اليونانية، هي أميرة فينيقية اختطفها الإله زيوس، من شواطئ صور اللبنانية وحملها إلى جزيرة كريت.. إذا الإسم أيضا أتى من الشرق«وهكذا يمضي الكتاب بسرد أفكاره المستخلصة من وقائع التاريخ الفلسفي والكنسي وحتى الميثولوجي، من المصادر الأوربية يربط بينها حتى تلوح لك الحقيقة الغائبة كالنور في آخر النفق المظلم. وقد يعرض في بعض الفصول الخلفية الثقافية لبعض فلاسفة الغرب الذين ارتكزت على رؤاهم أفكار من أتى بعدهم حتى يقف القارئ اليوم على عيون الآداب الغربية بمسافة تحول دون الغرق.
كان الكتاب كشافا لكثير من مراجع التاريخ الأوربي القديم كالإنقسامات السياسية الدينية بين أباطرة الشرق والغرب الأوربي والإختيارات الحاسمة لكنيسة روما بين تلك القوى، والتي سوف تلعب فيما بعد دورا مهما في الحضارة الأوربية.
الحقيقة لا أود أن أعرف بالكتاب بالقدر الذي أسجل سعادتي بحضوره في المكتبات العربية وسعادتي أيضا بأسلوبه الذي رافقني حتى الصفحة الأخيرة والإنسجام الذي صاغه بين صعوبة الحقل الذي خاضه والحفاظ على متعته السردية في إمداد القارئ بمعلومات تاريخية غاية في الأهمية والإثارة يقرر فيها الحقائق بلا إسهاب ثم يتقدمك إلى حقل آخر.
** **
- عبدالرحمن موالف