بين التحديات الاقتصادية والمنافسات الأمنية، أصبح قاع البحر مسرحاً جديداً للحروب المستقبلية بين القوى العظمى.
يهدف كتاب «الكابلات أعماق البحار» تأليف كاميي موريل (صدر عن المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي CNRS في حوالي 200 صفحة عام 2023) إلى استعراض المعايير اللازمة لتدفق وتأمين البيانات المعلوماتية المعاصرة، حيث تلعب هذه الكابلات دوراً محورياً في نقل المعلومات إلى جميع أنحاء العالم وهي بهذا تخلق ساحة تنافس بين القوى العظمى لا سيما على المستوى العلمي والاقتصادي أو الاتصالات أو المجال الجيوسياسي.
في هذا العصر الذي يتميز بزيادة كبيرة في استهلاك البيانات، يركّز كتاب «الكابلات أعماق البحار» على القضايا الرئيسية المرتبطة بالبنية التحتية للاتصالات: تشغيل التكنولوجيا وتسويقها والدور السياسي الذي تلعبه خطوط الاتصالات البحرية والإطار القانوني الدولي والتحدي البيئي لاستخدام هذه الكابلات على نحو مستدام.
توضح المؤلفة كاميي موريل أن أكثر من 98 % من المعلومات التي يتم نقلها حول العالم تمر عبر شبكة هائلة من الكابلات تحت سطح البحر بسرعة الضوء ويزيد عددها عن 450 كابلاً، فيما تعتبر هذه الكابلات حجر الزاوية في النمو والتطور الاقتصادي المعولَم، وتعدّ هذه الشبكة الهائلة من الكابلات تأتي أهميتها في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبنية التحتية الضرورية لدعم الحياة اليومية الأساسية للمستهلكين على كافة المستويات.
من الجدير بالذكر أن كاميي موريل تشدّد على أنه من الصعب علينا أن نتخيل كيفية عمل هذه الشبكات العملاقة فائقة السرعة التي يزيد طولها عن 1.3 مليون كيلومتر. تصف المؤلفة بشكل دقيق ماهية الكابل وتوضح أن متوسط حجمه يبلغ حجم معصم الفتى البالغ وقد يصل طوله إلى 17000 كيلومتر. كما أن أنظمة الاتصالات عبر هذه الكابلات تتطلب وجود جهاز إلكتروني يتلقى الإشارة ثم يعيد بثها بعد ذلك كل خمسين كيلومترًا. علماً بأن قدرة نقل الإشارات تضاعفت لكل زوج من الألياف الضوئية بمقدار 400000 بين عامي 1988 و2015. إلا أن الضعف الذي يصيب شبكات الاتصالات يرجع إلى الأضرار الناجمة عن الاصطدام الذي يحدث بين مراسي السفن وشباك الصيد.
عن النمو الجنوني للكابلات البحرية، يستعرض كتاب «الكابلات أعماق البحار» الأسباب التي دعت إلى زيادة اللجوء إلى الكابلات البحرية، ففيما كان هناك حوالي 250 كابلاً في عام 2014، سيزيد العدد إلى ما يقرب من 500 كابل في عام 2023. يشير الكتاب إلى أنه قبل بضع سنوات، كان كل كابل يربط أوروبا بالولايات المتحدة ينقل حوالي 60 تيرابايت من البيانات في الثانية، واليوم، تنقل الكابلات 250 تيرابايت في الثانية عبر المحيط الأطلسي وستصل مستقبلا إلى حوالي 500 تيرابايت في الثانية.
أما عن التغطية الإقليمية غير المتكافئة، فقد جاء في كتاب «الكابلات أعماق البحار،» أن خريطة الكابلات البحرية تشتمل على ثلاثة محاور رئيسية للبيانات: محور أوروبا آسيا والمحور الذي يمر عبر المحيط الأطلسي والمحور الذي يمر عبر المحيط الهادئ ويربط آسيا بالولايات المتحدة الأمريكية. تؤكد مؤلفة الكتاب على أن هذا التوزيع غير المتكافئ قد يتغير وفقا لطلبات المستهلكين، حيث إن وصول كابل بحري إلى منطقة ما يسمح بتحسين الإنتاج: فكلما كان المستهلك أقل اتصالاً بالإنترنت العالمي كان إنتاجه محدوداً وبالتالي يكون غير قادر على النهوض بمتطلبات خطط التنمية المجتمعية والاقتصادية لديه.
تلفت المؤلفة كاميي موريل الانتباه إلى أن النظام البيئي للكابلات البحرية يشتمل على ثلاثة أنواع رئيسية من الأطراف الفاعلة في سوق الكابلات البحرية: الشركات العملاقة الموردة للكابلات والشركات العملاقة التي تضع هذه الكابلات في قاع البحار والشركات المالكة لها. لقد أصبح عمالقة الويب مالكين للكابلات البحرية، حيث تضاعفت القدرة العالمية للاتصالات بمقدار ثلاث عشرة مرة بين عامي 2012 و2016 وقد أدي ذلك إلى زيادة كبيرة في حركة البيانات العالمية. من الملاحظ أنه في عام 2021، أصبحت Google هي المستثمر الأول بين عمالقة الويب بتمويل تسعة عشر كابلاً نشطاً ومستقبلياً مقابل خمسة كابلات لشركة Microsoft.
يتناول كتاب «الكابلات أعماق البحار» العلاقة التي تربط الجغرافيا بالجغرافيا السياسية، إذ إن مركز ثقل الكابلات البحرية قد تحول من القارة الأوروبية إلى القارة الأمريكية، بالإضافة إلى بعض المناطق الإستراتيجية المهمة مثل جيبوتي ومرسيليا وقيانوسيا وإفريقيا والقطب الشمالي وجنوب إفريقيا، الأمر الذي يخلق مساحة بحرية جديدة للصراع: تستعرض كامي موريل إستراتيجية الصراعات بين بعض الدول مع هذه الكابلات البحرية مثل روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية.
من خلال استعراض كتاب «الكابلات أعماق البحار،» يمكن للقارئ أن يجد إجابة شافية للأسئلة التي طرحتها المؤلفة والتي تتعلق بالإطار القانوني الذي يحكم استخدام هذه الكابلات وإدارتها، حيث تزايد الوعي بإدراج هذه القضية على جدول أعمال العديد من المنتديات المتعددة الأطراف. تلاحظ المؤلفة أنه في المنطقة الاقتصادية الخالصة Exclusive economic zone وعلى الامتداد القاري المغطى بالماء Continental shelf توجد حرية تثبيت الكابلات في حين توجد مناطق بحرية متنازع عليها، الأمر الذي يمثل مشكلة بالنسبة لمد الكابلات البحرية.
أما عن التوترات الجيوسياسية التي تؤثر على كفاءة هذه الكابلات، فتشير المؤلفة إلى أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين يزداد يوماً بعد يوم وقد يؤدي إلى عرقلة المشاريع المستقبلية التي تهدف إلى تعزيز التجارة والاتصال على مستوى العالم.
ختاماً تعتقد كامي موريل أن الكابلات البحرية كانت ولا تزال حاجة ضرورية لتلبية متطلبات الحياة اليومية وتذكرنا بقانون ميتكالف Metcalfe الذي ينص على أن «قيمة الويب تتناسب مع مربع عدد مستخدميها: فكلما زاد استخدام الويب زاد ذلك في قيمته». ولهذا فإن السيطرة على بنية الاتصالات التحتية في أعماق البحار تعدّ أحد العوامل الرئيسية التي تحدد أبعاد نظام القوى في العلاقات الدولية ومن المقومات الجوهرية في النجاح الاقتصادي لجميع الدول.
** **
- د. أيمن منير