محمد خير البقاعي
لا يصبح الإنجاز العلمي تطبيقيًّا كان أم إنسانيًّا حضاريًّا إن لم يعم نفعه أو تأثيره مجتمعات بشرية متنوعة اللغات والثقافات. وليس من السهل الوصول إليها لأسباب كثيرة أهمها في رأيي: العائق اللغوي لأن اللغة مستودع الفكر والإنجازات العلمية والعملية منذ بدء الخليقة إنما ارتبطت بالقدرة على التعبير عنها وشرحها وتبيان فوائدها وخطرها في المكتشفات والنظريات العلمية الممتدة من اكتشاف النار إلى غزو الفضاء وصولًا إلى ما تراه العين من منجزات العلم الحديث التي كانت في كل حقب التاريخ توصف بذلك سواء أكانت مفيدة أم مهلكة تستتر بستار الردع المتبادل والهيمنة على مخارج الكون ومداخله منذ أدوات الصيد البدائية حتى مخترعات عصرنا هذا، ولما كان البشر لا يتكلمون لغة واحدة بل يتعلم بعضهم لغات بعض فإن الحل الذي اهتدوا إليه هو الترجمة التي تسير في مختلف الاتجاهات تنقل للقوي فكر الضعيف وللضعيف فكر القوي ببعض التفاوت في الاستفادة تبعًا لتطور المدارك. ولعل التفاوت في التلقي والتمثل يكمن فيما يسمى العلوم الإنسانية أكثر مما يتضح في العلوم التطبيقية لاستقرار المعايير والتشارك المعرفي التوافقي بين أهل هذه العلوم. ولكن الخلاف والشقاق يبلغ أشده عندما نصل إلى مجال العلوم الإنسانية فلسفة وأدبًا وعقائد يصعب الفصل في قضاياها حسمًا، وإنما تبذل المحاولات لتقارب وتحاول الترجمة وضع أسسه، ولكنه يظل يدور في فلك الغالب والمتطلع لكيلا نقول المغلوب ومن هنا نشأت فكرة الأدب العالمي والأدباء العالميين، وظل الآخرون في فلك يدورون حول تلك الكواكب التي أهلتها الموهبة بلا شك، ولكن الأطراف فيها من المواهب ما تحجبه اللغات أو السياسات أو العزوف. ولو استعرضت مؤسسة علمية جادة غير ربحية مسارات الترجمة في العالم لبدت لنا عجائب في جانبيها التطبيقي والإنساني، وإذا كان لنا أن نتحدث عن الترجمة في الدور الحضاري العربي فإنها كانت بلا شك حاضرة منذ أقدم العصور، ولكن انطلاقتها الجادة منذ العصر الأموي واستمراريتها في مراكز تولت تشجيعها وتطويرها ليكون نتاجها مادة لتطور حضاري علمي وإنساني في منجز أتاح الاطلاع على نتاج عقول الأمم الأخرى قبل أن يعمد العلماء إلى تطويرها واستكمال ضلع المربع الحضاري الذي لا ينكره منصف تطبيقيًّا وإنسانيًّا.
لقد كانت اللغة العربية في مرحلة بناء الحضارة العربية الإسلامية حاضرة مزدهرة قادرة على استيعاب العلوم التطبيقية بتفرعاتها مستوعبة، كما نقول، علوم روما وفارس والعمل عليها تطويرًا وإبداعًا حتى بلغ الأمر أوجه في الأندلس التي كانت ينبوع الفكر العالمي بصبغة عربية إسلامية سلكت الطريق التي عبدتها الرغبة الواضحة في استيعاب المنجز الحضاري وتطويره في انطلاقة استمرّت زمنًا، وتفاوتت بين الاعتراف والإنكار اللذين لم يقفا في وجه تقدمها. وأرى أنه لا فائدة اليوم في إضاعة الوقت في مسألة السبق الحضاري والسطو العلمي بين الحضارات لأن النتائج لن ترفع السابق، ولن تضع المسبوق فالعلم بمختلف صنوفه لا يقف بانتظار النتائج.
إن الغفوة الحضارية الطويلة التي أثقلت كاهل أتباع الحضارة العربية الإسلامية، وحجبت إنجازاتها استمرّت حتى جاء ما سمي عصر يقظة اللغة العربية الأخيرة في أواسط القرن الثالث عشر الهجري/ الثلث الأول من القرن التاسع عشر للميلاد كما حددها العلامة العراقي مصطفى جواد في مقالته ( العربية والعصر) في العدد الأول من مجلة «أقلام» العراقية ( 1384 هج/ 1964 م، ص5). قال: «بدأ ذلكم العصر في مصر بترجمة الكتب الإفرنجية العلمية والتاريخية والاجتماعية والفلسفية إلى اللغة العربية) وأورد أمثلة لذلك أول ما يلاحظ عليها التزام السجع في عنوانياتها، وكأنها امتداد لعصر الدول المتتابعة مثال ذلك في مجال العلوم ( منتهى الأغراض في علم شفاء الأمراض) لروسيه وسامسون الطبيبين الفرنسيين المشهورين، ترجمه يوحنا عنجوري وطبع في بولاق 1250 هج/ 1834 م وذكر الدكتور جواد عددًا من الكتب المسجوعة عنوانياتها، وأحال إلى كتاب مهم يعد وثيقة نادرة لما ترجم في هذه البدايات ( تاريخ الترجمة والحركة الثقافية: في عصر محمد علي، جمال الدين الشيال (1911-1967 م)
نشر دار الفكر العربي مصر 1951 م.
وأهم الملاحظات على كتب البدايات هذه أنها كما سبق القول مسجوعة وأن المصطلحات والمسميات ما زالت في حالة جنينية فالطب البيطري هو في ذلك الوقت المبكر علم البيطرية وغير ذلك مما يستطرف في هذا المجال. لقد وقفت عند قول العلامة مصطفى جواد: «وكان المترجمون من الشاميين والمصريين، ولم تكن الثقة في عباراتهم كاملة، فنُدب لتصحيح ترجمتهم وتحريرها شيوخ أزهريون، ولم نعلم كيف كان هؤلاء الشيوخ الفضلاء يزاولون التصحيح والتحرير، فإن الإصلاح اللغوي لترجمة الكتب العلمية والكتب والفنية ينبغي له أن يكون مبنيًّا على حفظ مقاصد المؤلف ومعانيه، قبل كل شيء». إن الغرض والفكر الذي يعبر عنه مصطفى جواد في مقالته ما زال للأسف قائمًا حتى يوم الناس هذا، بل تراجع أمر الترجمة عن عصر بداياتها مع وجود مترجمين أكفاء وزاد الأمر تعقيدًا وغنى دخول دول المغرب العربي كوكب الترجمة وتزاحمت المعارف على عرب القرن العشرين كما تزاحمت على عرب القرن التاسع عشر وظلت الترجمة نشاطًا يمارسه الأفراد، وترعاه مؤسسات قليلة الموارد. ولئن رأينا بعض المفكرين الغربيين يأسفون لمكانة المترجم والترجمة حتى قال رولان بارت ( 1971 م) « إن المترجمين في حرب اللغات هم جنود المشاة الذين لا يأبه أحد لقتلهم وتوضع أسماؤهم في أماكن قصية على غلاف الكتاب لا يكاد أحد يتبينه»,
لقد استمر الغموض مخيمًا في عملية الترجمة من العربية في عصورها الذهبية ( الأموية والعباسية بأطوارها) على وجود بعض الدراسات الرائدة التي لم يكتب لها الذيوع، وعلى وجه الخصوص في الترجمات العربية من اللغات الشرقية الفارسية والصينية والهندية، ولعل أفضل دراسة في هذا المقام كتاب العالم الفلسطيني العربي الكبير نقولا زيادة ( 1907-2006 م)
الفكر اليوناني والثقافة العربية: حركة الترجمة اليونانية-العربية في بغداد والمجتمع العباسي المبكر، تأليف: ديمتري غوتاس ؛ ترجمة: نقولا زيادة، 2003 م ففيه معلومات نادرة عن الترجمات العربية من الآداب الشرقية كل هذه المسيرة من الترجمة من العربية وإليها لم تنعكس على مجال الترجمة في الاتجاهين وظلت الدراسات الرصينة في المجال نادرة حتى يوم الناس هذا.
إن الرؤية المباركة التي تقود العملية التطويرية الشاملة الواعية التي تعيشها المملكة اليوم تدعونا إلى نظرة متقدمة في أهمية الترجمة التي سبق الدعوة إلى الاهتمام بها إذ كنت أول من دعا إلى إنشاء جائزة عالمية للترجمة يكون مقرها المملكة العربية السعودية وذلك في صحيفة الجزيرة 31 مارس 2003 م في حوار مع الأستاذ علي بن سعد القحطاني وتحقق ذلك بحمد الله في جائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة التي دفعت بعملية الترجمة في المملكة والعالم العربي برصانتها وحسن اختيارها.
لقد كان تطوير المؤسسة الثقافية في منظور الرؤية مع قائدها وعرابها -يحفظهم الله- فكان إسناد مهمة التطوير هذه لوزير شاب لديه شغف الريادة في الآفاق الرحيبة للثقافة سمو الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود وفقه الله بإنشاء هيئات يتولى إداراتها شباب الرؤية بعقولهم المستنيرة الملتزمة المنهجية ومنها هيئة الأدب والنشر والترجمة التي تفعل البعد الحضاري للثقافة في إطار الرؤية ومستهدفاتها ولعليّ هنا أتوجه إلى سمو الأمير الوزير باقتراح يقضي بتأسيس أكاديمية سعودية مستقلة في رحاب وزارة الثقافة باسم المدرسة العليا للترجمة تشرف عليها هيئة مستقلة تسمى هيئة الترجمة تقبل المتفوقين من خريجي الجامعات من كليات اللغات والترجمة وتؤهلهم الأكاديمية في لغات العالم ( الإنجليزية. والفرنسية والصينية والروسية والهندية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية والتركية) وتصقل لغتهم العربية الحديثة الحية وتطورها، ويكونون قاعدة للمترجمين الفوريين والرسميين والتجاريين والإنسانيات من اللغات المذكورة وإليها؛ هذه الأكاديمية ستكون حجر الرحى في النهضة الاقتصادية والفنية والأدبية التي نتوخاها في مسار الرؤية المباركة وتضبط مسارات المترجمين الهواة والمحترفين في تقدم الرؤية في مجالات ترقى ببلادنا وشعبها إلى القمة في ظل القيادة الحكيمة لسيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهدنا الأمين صاحب السمو الملكي رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود يحفظهم الله.