أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
قال (ذو القُروح) الزوجيَّة، وهو لا يحاورني:
- ثمَّة نمطٌ من النِّساء لا تعدو قضيَّةُ النِّسويَّةِ لديهنَّ المناكفة، والاستفزاز التقليدي، فإذا المرأة تُثبت من خلال هذا السلوك أنَّها أشدُّ ضيقًا في الأفق من غيرها، وأنَّ اهتمامها منحصرٌ في الغيرة من بنات جنسها على الرَّجُل.
- وهي لهذا أُنثى تقليديَّة الفكر، كما ترى؟
- تمامًا! رأس همِّها التفكير النسويُّ البدائي: زواجًا، وغيرة، وخيانة، مع «برانويا paranoia» مزمنة، وعُقدة شعورٍ بالاضطهاد. امرأةٌ مستعبَدةٌ للذُّكورة بامتياز، غير متحرِّرة الفكر والمطامح، وإنْ عبَّرت عن شخصيتها تلك بخطابٍ مناقض، لم ينشأ إلَّا عن أنها مهووسة بأن تغدو فَلَك الرَّجُل الوحيد، وأن «يُسَتِّـتَها» مولاها، كما يقال في بعض اللهجات؛ ولذلك فقد صارت قضيَّة القضايا في ذهنها أن تكون زوجةً وحيدةً، لا شريكة لها.
- فيما هناك خطاب مستنير آخَر، قد يعجبك، كذلك الذي عبَّرت عنه الكاتبة (نورة علي)، في (صحيفة الجزيرة، الخميس 4 جمادى الآخرة 1430هـ، العدد 13391)، تحت عنوان «عن التعدُّد.. عذرًا بنات جنسي»، حيث تقول:
«الرجُل ليس إلهًا تعبده الأُنثى؛ لكلِّ إنسان في هذه الحياة دور يؤدِّيه، ولكل إنسان إنسانيَّته، حياته الخاصة. والمرأة إن لم يكن لها اهتمامات وأهداف، لن تشعر بوجودها كفردٍ فعَّال منتج، وسيتقوقع اهتمامها في فَلَك الزوج، أين ذهب؟.. ماذا يفعل؟.. من يحدِّث؟ بماذا يفكِّر؟.. وتستهلك وتهدر وقتها في مراقبته، فتتأجج داخلها نار الشكِّ والغيرة. في نظري.. المرأة التي ترضى بالتعدُّد، فتكون زوجة لرجل معدِّد، من غير مرضٍ ولا عقمٍ أو غيرهما من الأسباب التي يتيح فيها الشرع والمجتمع الزواج بأخرى، امرأة ذات شخصيَّة فذَّة، واعية، مدركة لدَورها وحقِّها في الحياة، حريصة على أن تترك بصمة وأثرًا في كل مكان، تتفاعل مع المجتمع، تساهم في حل مشكلاته. أمَّا أن يتحجَّم تفكيرها، وتدور كل أنماط حياتها في فَلَك الزوج، فهذا ضياع لمعنى الحياة.»
- هذا من أطرف الآراء لامرأة قط، وأكثرها صدقًا، وعقلانيَّة، واستنارة، وتجاوزًا للتفكير النِّسويِّ النمطي؛ لأنه خارج الصندوق، أو قل: خارج عُشِّ الزوجيَّة، كما يسمُّونه.
- بالتأكيد أعجبك لأنك تنوي التعديد، أيها الذُّكوريُّ المفتري.
- كلَّا. وهذا لا ينفي أن التعديد يُفترَض فيه أن يكون مقنَّنًا تقنينًا صارمًا. وقد أشار «القرآن» إلى أنَّه محفوفٌ بالظُّلم، والظُّلم قد حرَّمه الله على نفسه، وجعله بين الناس محرَّمًا. ذلك أنَّ الآيات تشير إلى استحالة العدل بين النِّساء مطلَقًا، في الآية من (سورة النِّساء): «وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء، وَلَوْ حَرَصْتُمْ؛ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ، وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا، فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا». العدل، إذن، غير مستطاعٍ بين النِّساء ، مهما حرص الزوج. والنَّصُّ مطلَق، لم يَنُصَّ على العدل في الحُبِّ فقط، كما مال بعض المفسِّرين، ممَّن قد يضيفون على النصوص من رؤوسهم.
- ومن ثَمَّ فالأمر في التعديد سبيلٌ إلى الظُّلم؟ هكذا ببساطة؟
- وما عدم العدل، سِوَى الظُّلم؟ وهو ظُلم مُتَعَدٍّ، إلى الأولاد والمجتمع.
- لِمَ يُجاز، إذن؟
- لم يُقفَل باب التعديد، ولم يُعَدَّ زانيًا مَن عَرَفَ غير واحدة من خلال الزواج، كما في ديانات أخرى، يبتدع أهلها طهوريَّةً ورهبانيَّة، ما كُتِبت عليهم، ثمَّ لا يستطيعون رعاية ما ابتدعوه حقَّ رعايته.
- لماذا؟
- لماذا؟ لأنَّ ثمَّةَ ضرورات ثَبَتَ في المجتمعات «التوحيديَّة»، التي تُحرِّم التعديد، أنَّ مفاسدها كثيرة، بل أنَّ هناك تحايلات لإقامة علاقات عديدة، غير معلنةٍ ولا شرعيَّة، خارج نظام الزواج.
- أي؟
- أي مسافحةً ومخادنة. مع أنَّ المرأة نفسها قد ترغب في أن يُعدِّد زوجها لسببٍ أو لآخَر.
- فما الحل؟
- الكلُّ يعرف الحلَّ، لكن الحلَّ لا يريده الكل!
- الحلُّ إجازة التعديد؟
- من حيث المبدأ، ولكن مع جعله في دائرة الخوف من الظُّلم والتحذير منه.
- والظُّلم ظُلمات يوم القيامة.
- وفي جعل مخافة الله، ومخافة الظُّلم، أمام الإنسان، وتحذيره الصريح، شديد اللهجة من التعديد، ما يفضي إلى توقِّي الوقوع في الظُّلم بالاكتفاء بواحدة: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاء، مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا، فَوَاحِدَةً، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ؛ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا.»
- الخلاصة؟
- الخلاصة: هذا هو ميزان العقل والعدل والواقع، الذي تُلْوَى أع ناقه من ذوي الأهواء لفتح باب الرُّخصة في التعديد على مصراعَيه- متفاخرين بزرائب من النِّساء وقطعان من الصِّبية- أو تُلْوَى أعناقه من ذوي الأهواء النقيضة؛ لتصوير الأمر ذُكوريَّةً محضةً وظُلمًا مطلَقًا للمرأة.
- لا تُكابر، يا رجُل، ولا تغالط؛ أنت تعلم أنَّ المرأة مستضعفةٌ مضطهدة غالبًا.
- البكاء على المرأة المظلومة التي يتآمر عليها الرجال عبر التاريخ، وإدارة المعركة الأزليَّة بين آدم وحواء، لا يفيد المرأة.
- المجتمع كلُّه نتاج مدرسة المرأة أوَّلًا وأخيرًا.
- طبعًا. لكن لا قيمة للقِيَم، لدَى تيارٍ أيديولوجيٍّ، خارج ما اعتنقه من أفكار، من حيث هو لا يرى الحياة، ولا يُبصِر الواقع، ولا يشاهد الطبيعة من حوله. كأنَّ الله لم يخلق في الطبيعة إلَّا الإنسان، وكأنَّ التمايز بين الأُنوثة والذُّكورة، في الطبيعة والوظائف والقدرات، ليس إلَّا في عالم الإنسان!
- وبعدين؟
- ولأنَّه منهج تفكيرٍ مستلَب البصيرة والمنهجيَّة، فإنَّ نموذج المرأة الغربيَّ هو النموذج المثالي، الأمثل، والأوحد، لدَى الشرقيَّات.
- ألا ترى في هذا مبالغة خياليَّة؟
- كيف؟
- معظم هؤلاء يجهلون الغرب ونموذجه، أصلًا! وبعض الناشطات والناشطين من عتاة التيَّار النِّسوي لا يمتلكون من الثقافة ولا من الفكر ما يتيح لهم القرب من واقع المجتمع الغربي، بما يؤهل حتى للمحاكاة!
- وهنا بيت الداء المضاعف, حيث تنبني الأحكام على السماع، أو عبر الإعلام، أو التصوُّر الطوباوي للغرب وأهله. ومن هنا فإنَّ تلك الشطحات المعرفيَّة والوجوديَّة لا تتأتَّى عن عَمَالَةٍ ثقافيَّة، ولا حتى من انبهارٍ بالضرورة، ولكن عن ضحالةٍ فكريَّةٍ ومعرفيَّة، مع تعصُّبٍ يُعمي ويُصِم.
- أراك ما أسلمتَ أحدًا من لسانك، يا ذا القُروح!
- لِسانُ الفَتَى نِصْفٌ، ونِصْفٌ فُؤادُهُ؛
فَلَم يَبْقَ إِلَّا صُورَةُ اللَّحمِ والدَّمِ
- لاحظْ الذُّكوريَّة حتى في هذا البيت.. قال الشاعر: «الفتى»، ولم يقل «الفتاة»! ولذلك تعاورَ البيتَ غيرُ شاعرٍ من أجدادك الذُّكوريِّين، فنُسِب إلى (الأعور الشني، 50هـ= 670م)، و(زياد الأعجم، 100هـ= 718م)، و(عبدالله بن معاوية، 129هـ= 746م).
- لا، ليس السبب عن ذُكوريَّة، لكن الحقيقة أنَّ لسان الفتاة «كُلٌّ»، لا «نِصْفٌ» فقط!
- عليك من القُروح ما تستحق.
- وعليك.
** **
- (رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا - الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)