مشعل الحارثي
البيت يعرف كل شيء - البيت يذكر كل شيء - البيت لم ينس وجوهنا الطفلة - وسيدرك أننا سنعود لا محالة - البيت ينتظرنا بعد كل هذه الأعوام - وبوابته الصدئة مفتوحة من أجلنا فهل ندخل - بهذه العبارات للكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق ضمن روايته (أسطورة البيت) وجدت نفسي مشدوداً ومن عنوان الرواية إلى هذا المكان الذي تعارفنا عليه باسم (البيت) المأوى والكينونة والهوية ومستودع الذكريات، وأيقونة المشاعر والأحاسيس وأنفاس الحب والوجدان، الحافظ للود والسد الذي أبصرت عيوننا نور الحياة على أرضه وتحت سقفه وجدرانه، واعتبره البعض كائنا حيا له وجوده وبصماته وارتباطه الكبير بحياتنا منذ الولادة وحتى الممات.
ومهما تنوعت أحجام هذه البيوت ومترادفاتها المتعددة فردية كانت أو جماعية صغيرة أو كبيرة، قصر أو فيلا أو شقة في عمارة، غرفة كانت في مسكن أو فندق أو في زنزانة، وسواء كان البيت في الريف أم المدينة، من طين أو حجر، أو من خشب وصفيح، أو كانت من الطوب والإسمنت، أو كان مغارة أو خيمة في صحراء، أو كوخ داخل الأدغال، أو عائماً في البحار، وسواء كان خطابها موجها لمجتمعها الداخلي أو لمجتمعها الخارجي إلا أنها شكلت في مجملها مسرحاً رحباً وحضوراً كبيراً في الكثير من الأعمال الأدبية وخصوصاً الروايات، بل كانت في معظمها بداية لتكوين إطار الحدث وتشكيل العلاقات التي تتم بين شخصيات الرواية وكشفت طبائع الإنسان وسلوكياته ونزعاته وثقافته وسمات أفكاره، وتعج بمكونات وتعابير لا حصر لها، كما كان (البيت) عنواناً وعتبة للدخول إلى عوالم هذه الروايات المختلفة وهو ما قادني للتساؤل عن أبرز هذه الروايات التي تناولت هذا الموضوع وكم كانت النتيجة غير متوقعة لتلك المسميات والأعداد الكبيرة لهذه الروايات وما تضمنته من خصائص وسمات فنية بدءًا من شخصياتها وتقنياتها السردية المتنوعة التي جمعت بين الواقع والخيال، وما طرح بها من آراء وأفكار، وما حظيت به أغلبها من اهتمام وتحليل ودراسات نقدية وتحول أغلبها إلى أعمال فنية وأفلام سينمائية عالمية مما يؤكد محورية البيت وأهمية وظيفته كأساس في حياة البشرية وأنه البنية التحتية التي تنطلق منه شبكة الأفكار والمشاعر في علاقات تبادلية وفي فضاء رحب.
وعند تناول هذه الروايات على مختلف مستوياتها وجنسيات كتابها العالمية والعربية التي تحمل اسم (البيت) وكان هو محورها الأساس واستعراضها وتأملها بإمعان تام سوف يشعر القارئ بمدى تنوعها ومعالجاتها المختلفة من اجتماعية إلى سياسية إلى تاريخية وما فيها من شجن ورومانسية وستجد أنك تشارك كتابها في جزئياتها، وأن فيها شيئاً مما تبحث عنه أو يخصك ويحاكيك، وسوف تستوقفك بها الكثير من التفاصيل، وتنقلك لمرحلة الطفولة وتعيدك لذكرياتها الغضة وأحلامها الوردية وبعض شخصياتها التي قد تكون شاخت أو رحلت إلى الأبد.
ولعل من أمثلة ذلك رواية (البيت) للروائية الأمريكية مارلين روبنسون التي نالت عليها جائزة الأورنج، وفيها قامت بتجسيد حي لروح الحياة الاجتماعية لشخصيات تعيش في مدن الريف وكانت تتنازعها تقاليد الماضي ومتغيرات الحياة الجديدة وتناولت صيرورة الحياة بكل تفاصيلها الصغيرة والحميمة واستعادة ذاكرة المكان وما تشي به الوظيفة الاجتماعية التي يشكلها البيت في حياة المجتمع والناس، وهي لم تكتف بذلك، بل كتبت أيضاً روايتها الأخرى التي تحمل عنوان (تدبير منزلي) الصادرة عام 1980م والفائزة بأفضل رواية أولى وأفضل مائه عمل روائي في قائمة الغارديان وفيها البيت يمثل مركز الرواية ومحورها الثابت لعائلة آخذة في الزوال وتتناول الكثير من تفاصيل الحياة التي تصبغ البيت الأمريكي.
أما رواية (البيت والعالم) لمؤلفه رابندرانات طاغور فقد تحدثت عن الإنسان الذي سخر حياته للإنسانية واقتبس شعره من روح الإنسان ومن رسالة الله عز وجل للبشرية جمعاء ومن إيمانها العميق بأن كلمة الله العليا ورسالته للبشرية لن تفهم حق الفهم إلا حين تنتشر الحرية وتتحقق العدالة الاجتماعية لأن الحرية في نظر الكاتب تمثل أعظم شيء للجنس البشري ولا يوازيها أي قيمة أخرى.
وللأديب السوداني الطيب صالح رواية تحمل مسمى (ضوء البيت) وهو اسم لبطل الرواية التي يرى فيها بعض النقاد أنها تكملة لروايته السابقة عرس الزين وأنها تمزج بين الواقع والخيال في صراع الفرد الدائم ما بين القديم والحديث.
أما في رواية (بيت النخيل) للروائي طارق الطيب فهي تمثل أوجاع وأحزان وأفراح الروح الإنسانية مجسدة في حكاية السودان بحروبه الطاحنة وتشرد أهلها الطيبين دون سبب وكأنها تحكي أيضاً واقع السودان اليوم وما يدور على أرضه من صراعات ونزاعات داخلية وتشريد لشعبه، إلى جانب أن الرواية تناولت ومن خلال سياقاتها وشخصياتها حكاية مصر بدفئها وود أهلها.
وهناك رواية (البيت الصامت) للأديب المصري محمد عبدالحليم عبدالله، ويشترك معها في نفس الاسم رواية الكاتب التركي أورهان باموق والحائزة على جائزة نوبل للآداب التي وثق بها كاتبها تاريخ بلاده خلال فترة الثمانينيات الميلادية إلى القرن العشرين، ورواية (البيت المهجور) للكاتبة دعاء عزام التي تتحدث عن عقوق الآباء حيث يقوم بطل الرواية بإيداع والدته المسنة في بيت العجزة تحقيقاً لرغبة زوجته الأرستقراطية الثرية والمتسلطة.
أما رواية (البيت الكبير) المترجمة للأديب الكولومبي - سيبيدا ساموديو- التي تعد رائدة الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية فهي تمثل عملا فنيا مختلفا ينقلنا في أجواء شاعرية أسطورية وفي أجواء من التشويق الممتع.
وإذا انتقلنا للروايات البوليسية فنذكر منها رواية (البيت الأعوج) لكاتبة الروايات البوليسية الشهيرة إجاثا كريستي وهي نفسها الرواية التي طبعت حديثاً بعنوان (التضحية الكبرى) أو البيت المائل، ورواية الرعب (البيت) للكاتبان فرنك أي بيرتي، وتيد ديكر الصادرة عام 2006م التي تحولت إلى فيلم سينمائي، ورواية (البيت الموحش) للأديب الإنجليزي تشارلز ديكنز التي نشرت عام 1953م، ورواية (البيت القديم) للكاتبة والروائية المصرية دينا عماد التي تدور أحداثها في بيت تسكنه الأشباح وينتاب الحياة داخله الكثير من الخوف والغموض .
وهناك رواية (البيت) للروائية الأمريكية (دانيال ستيل)، ورواية (البيت الأندلسي) للأديب والكاتب الجزائري واسيني الأعرج التي تروي حكاية الفلسطينيين مسجلاً عذاباتهم وسعيهم لاستعادة كرامتهم، ورواية (لا يوجد سوانا في البيت) للكاتب السعودي عبدالله بخيت، ورواية (بيت طيور أيلول) للروائية اللبنانية أميلي نصر الله، ورواية (البيت المحرم) للروائية الفلسطينية ابتسام أبو ميالة الذي تدور أحداثها عن منزل الأسرة الذي نسفه الاحتلال وتعود بطلة الرواية بالذاكرة لماضي هذه الدار وكأنها تستمع إلى أصوات وحركات كل من كان يسكن بها من أسرتها.
وبتتبع عديد من الروايات ذات الصلة بمسمى (البيت) نجد أن الكتابة الروائية لم تتوقف عند مسمى البيت فقط وأن هناك روايات أخرى حملت أسماء أو أجزاء من مكونات البيت ومحتوياته الداخلية والخارجية وكانت هي الأخرى عناوين لعشرات الروايات ومنها رواية (الباب) للكاتبة الهنغارية - ماجدا سابو - 1987م، ورواية (الباب المفتوح) للكاتبة المصرية لطيفة الزيات، ورواية (الباب الأزرق) لاندريا برينك، ورواية (باب السبت) للكاتب عبدالقادر المهداوي، ورواية (حجرتان وصالة) للأديب المصري إبراهيم أصلان الذي يعرج بنا من خلال فصولها في نماذج من الأنماط اليومية ويضفي عليها بأسلوبه المميز ما يجعلها تعيش في الذاكرة، ورواية (قدر الغرف المقبضة) للروائي المصري عبدالحكيم قاسم التي يتنقل بطلها من غرفة إلى أخرى في أماكن متعددة ويستحضر فيها تفاصيل كل غرفة لمثل أمامنا نابضة بالحياة.
وبعد هذه الرحلة التي عرجنا فيها على أهمية ودور (البيت) وما يمثله من ركيزة أساسية في حياتنا ويعد مسرحاً رحباً للكثير من الأعمال الأدبية - الرواية نموذجاً - ثارت لدى عديد من التساؤلات ومنها هل ما زال البيت ينتظرنا بلهفة وشوق كما السابق؟! وهل صورته في واقعنا المعاصر هي نفس صورته الأولى ومنذ أن عرفه الإنسان؟! وبعد أن اقتحمت خصوصيته وسياجه وبدون استئذان الشبكة العنكبوتية وملحقاتها من وسائل التواصل المختلفة وما فرضته وأوجدته في هجمتها الشرسة تلك من وحشة وعزلة بين أفراد العائلة الواحدة في البيت الواحد فقشعت سقوفه وهتكت خصوصيته ونقلتهم من البيت المكان المحدود إلى فضاءات أخرى خارج المكان وعوالم لا تخطر على بال، حتى أصبح البيت يعاني الجفاء والخواء والاغتراب وأصبح أهله وساكنوه مجرد أرواح تتلاقى وقت الطعام أو في المنام وهجرتها تلك الحياة المتفاعلة التي كانت تأسرنا وتظللنا بسياج من المحبة والألفة والالتفاف وحملت معها مفهوماً جديداً للبيت فقدنا معه روح الحب والوفاء للبيت الذي كان الحضن الدافئ والسياج الآمن، والمصدر الخصب للذكريات والحكايا والأساطير.