تركي إبراهيم الماضي
كان أبوه ينتمي إلى جيل ما قبل الطفرة. من ضمن الأسماء التي بنت بسواعدها وبفكرها وجهدها الوطن، وجنينا – أي جيلنا وما بعدنا - الحياة المريحة، السهلة، مقارنة بما عاشوه وجربوه!
يفصل بيني وبينه في العمر عشر سنوات.
كان يحضر مع دفعتنا الدراسية في بعض المواد فقط. كان رقمه الجامعي بعيدا بمسافة سنوات عن أرقام دفعتنا. كان في خاطري دوما سؤاله، لكنه كان يمضي سريعا بعد انتهاء المحاضرة.
في عام التخرج، كنت أنتظر أمام مكتب أحد أساتذة القسم. رأيته قادما نحوي، سألني عن الأستاذ، أخبرته إنني لا زلت في انتظاره. سحب كرسيا وجلس بمحاذاتي. كنت أود أن أبدأ الحديث، لكنني احترمت صمته. مرت نصف ساعة قبل أن يخرج من صمته. تحدثنا في أمور كثيرة. لم أنس سؤالي القديم، رميته أمامه، تلقفه ببرود، ودون خجل قال : أنا أدرس هنا لأجل أبي فقط ! رغم غياباته المتعددة إلا أن معدله الدراسي مرتفع . ذكي جدا، حاضر البديهة، ولديه صبر في الحوار، وجمال آخاذ في ترتيب أفكاره.
كنت أعرف نجاحات أبيه المشهودة، وظننت أن الابن على خطى أبيه. لكنه لم يكن كذلك، إذ سرد علي تاريخ حماقاته كما لم أسمعها من قبل، لإنسان ظننته ذا عقل، وإذا به أخو الجهالة !
تحدث عن أبيه كحساب بنكي، يسحب منه المال كيف ومتى شاء. لم يذكر عن أبيه غير هذه الصورة. كان يقول أن أباه أجبره على الدراسة، ولا يهم نوع الدراسة، طالما أنه سيحصل على شهادة البكالوريوس في النهاية. في مقابل ذلك، سوف ينفق أبوه عليه، طالما هو منتظم في دراسته. كان الاتفاق غريبا، لكنه ضمن إطار الصورة المشوهة التي أبرزتها الطفرة، بدا مقنعا لأب كافح لصناعة اسمه، ويرجو لأبنائه على الأقل أن يكونوا من حملة الشهادات، حفاظا على الاسم الذي تعب في صناعته!
كان الابن مستغلا لهذا الاتفاق، بأبشع صورة. قرر من نفسه أن ينهي دراسته الجامعية في ثماني سنوات، ليستمتع بأكبر قدر من المكاسب التي يحققها من العيش تحت ظل والده.
ظل يروي كيف قضى اجازاته الصيفية بالخارج، و لولا فكرته المذهلة لاطالة أمد الدراسة، لما استطاع أن يستمتع كل هذه المدة الطويلة.
قلت له وأنا أشاهد قدوم الأستاذ من آخر الممر:
- ماذا عن السنوات التي ضاعت من عمرك.. ألم تحسب لها حسابا؟
ضحك كأنه يهزأ بي، ثم أردف:
- « لاحقين على الغثا «!
بعد ذلك بشهور، كنت أتلفت في حفل التخرج بحثا عنه، سألت أصدقاءه، فلم أجد جوابا. توقعت أن لا يحضر، لكن كنت مترددا في السبب، هل لخجله من الحضور مع من يصغره بأعوام، أو لأنه لا يعنيه الأمر، طالما أن الدراسة هي رغبة أبيه فقط، وقد أنجز المهمة.. فلماذا يحضر حفلة، هو لا يراها بعقله!